قد يفقد لبنان حقّه في التصويت في الأمم المتحدة بشكل نهائي بعد أن تلكأ عن دفع المستحقات المتوجّبة عليه والتي لا تتعدى المليوني دولار، وفي عدم وجود النيّة الفعلية بالدفع لاستعادة هذا الحقّ، على ما أكّدت أوساط ديبلوماسية موثوقة. وللتذكير بهذه الواقعة، فقد أعلن الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس في 17 كانون الثاني الفائت، أنّ لبنان وفنزويلا وجنوب السودان قد تأخّرت عن سداد مستحقّات ميزانية تشغيل الأمم المتحدة، وأنّها من بين 6 دول فقدت حقّها قي التصويت في الجمعية العامّة المكوّنة من 192 بلداً عضواً في المنظمة الدولية. وذكرت رسالة الأمين العام في حينه أنّ الحدّ الأدنى من المدفوعات اللازمة لاستعادة حقّ التصويت هو مليون و835 ألف و303 دولارات.
وإذ بدأ انتقاد الحكومة على هذا الإهمال والتقصير، سارعت وزارة الخارجية والمغتربين لتنفي مسؤوليتها في التقصير عن تسديد مساهمات لبنان للأمم المتحدة وحرمانه من حقّ التصويت، وأكّدت سعيها لحلّ المشكلة سريعاً، حتى أنّها ذهبت الى الإعلان عن أنّ بيروت ستدفع المتأخّرات للأمم المتحدة لاستعادة حقوقها في المنظمة الدولية في السرعة المرجوّة، بعد أن خسر لبنان الذي يعاني من أزمة مالية شديدة، حقّ التصويت للمرة الثانية خلال ثلاث سنوات بسبب عدم دفع الإشتراكات. ولكن يتبيّن حتى الساعة، أنّ المبلغ المذكور لم يتمّ تسديده بعد، وقد وصلت مذكّرة بهذا الشأن الى وزارة الخارجية والمغتربين تُذكّرها بضرورة تسديد المساهمات، في حين فُهم منها أنّها ليست في صدد الدفع. وهذا يعني أنّ لبنان قد يفقد حقّه النهائي بالتصويت في الجمعية العامّة للأمم المتحدة. علماً بأنّ الميثاق يمنح الجمعية العامة أيضا سلطة تقرير “أن عدم الدفع يرجع إلى ظروف خارجة عن إرادة العضو”، وفي هذه الحالة يمكن لأي بلد أن يستمر في التصويت.
وأوضحت الأوساط نفسها بأنّ التحذيرات من فقدان حقّ لبنان بالتصويت قد أدرجت في رسالة تلقّتها وزارة الخارجية والمغتربين لكي تتحرّك قبل فوات الأوان، لا سيما بعد تعليق حقّ لبنان بالتصويت في الأمم المتحدة، نظراً لتخلّفه، لغاية تاريخه (أواخر كانون الثاني)، عن تسديد المستحقات المتوجّبة عليه والتي تتمثل بـ 1.835.303 دولار أميركي. وأشارت الى أنّه حتى نهاية كانون الثاني الفائت لم تستلم بعثة لبنان الدائمة في نيويورك مبلغ المليون وسبعة عشر دولار أميركي، عربون مساهمة لبنان في الميزانية العادية عن العام ٢٠٢٢، والتي وافق عليها ديوان المحاسبة منذ شهر حزيران 2022، علماً أنّ المبلغ المطلوب لاسترجاع حقّ التصويت هو المستحقات كاملة أي 1.835.3030 دولار أميركي (بحسب البرقية الموجّهة لوزارة الخارجية رقم 1470/14 تاريخ 30/12/2022).
وبناء على ذلك، أشارت الى أنّ لبنان لا يزال في عِداد الدول غير المسدّدة لمستحقاتها حتى 25/1/2023 وهي: جزر القمر، وغينيا الإستوائية، والغابون، وساو تومي وبرينسيبي، والصومال، وجنوب السودان، وفنزويلا، لافتة الى أنّ “تداعيات فقدان لبنان لحقّ التصويت من شأنه أن يشّل عمل البعثة أفقياً وعمودياً، ويؤثر على مكانتها وثقلها، وكذلك على تأثيرها في هذا المحفل. فالعمل التعدّدي يقوم بالدرجة الأولى على عملية تبادل المواقف والدعم على مختلف الأصعدة. فعلى سبيل المثال، حين تدلي 160 دولة بصوتها دعماً لمشروع قرار يُقدّمه لبنان حول البقعة النفطية، أو حين تنتخب 160 دولة مرشح لبناني لمنصبِ مرموق في الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصّصة، لا بدّ للبنان أن يُبادلها الدعم في مبادراتها، سيما إذا كانت تنسجم مع مصالحه وأولوياته الوطنية”.
واعتبرت الأوساط نفسها أنّ التمتّع بامتياز حقّ التصويت لا يقتصر فقط على الإدلاء بصوتٍ، وانّما هو تجسيد لسبب وجود البعثات، كما وأنّ التصويت هو أداة تُمارس من خلالها البعثات تسويق رزنامة عملها وبرامجها الوطنية. وبعكس ذلك ينتفي موجب وجودها واستمرارها لتصبح حالتها حالة اللاعب المركون على مقاعد الاحتياط. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه في الأمم المتحدة كلّ دولة من الـ192 دولة عضو توازي صوت واحد، بمعزل عن حجمها وقوتها وديموغرافيتها، وبالتالي فإنّ جميع الأعضاء متساويين بموجب هذا الحقّ.
وأسفت لأن يفقد لبنان حقّه في التصويت، خاصةً في عام تحتفل فيه الأمم المتحدة في شهر كانون الأول 2023 بمرور 75 عاماً على اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي لعب فيه لبنان دوراً محورياً. علماً أنّه كان من ضمن 9 دول فقط شاركت في صياغته (وهي الولايات المتحدة الاميركية، والمملكة المتحدة، والصين، والإتحاد السوفياتي، وفرنسا، وكندا، واستراليا، وشيلي). ومن المؤسف جداً أن لا يكون لبنان في الأمم المتحدة هذا العام لاعباً حاضراً وفاعلاً.
وكشفت الأوساط عينها أنّ لبنان على موعد مع الجلسة العامة المقبلة للجمعیة العامة والتي ستعقد يوم غدِ الإثنين حيث سيتمّ التصويت على مشروعي قرار حول التعاون بین الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكیمیائیة (برقيتنا رقم 70/8 تاريخ 26/1/2023)، وفي حال عدم تسديد المبلغ المشار إليه أعلاه قبل موعد الجلسة، لن يتمكّن لبنان من التصويت على أي من المشروعين.
ولفتت الى أنّها ليست المّرة الأولى التي يتأخّر فيها لبنان عن دفع مستحقاته في أوانها بسبب روتين إداري وسوء تنسيق داخلي بين الجهات الحكومية والمالية المعنية. فقد حصل الأمر عينه في العام 2020 وكان أيضاً موضع حملات إعلامية وُئدت في اليوم التالي بعد إجراء اتصال مباشر بين رئيسة البعثة السابقة السفيرة آمال مدللي ورئاسة الحكومة حينها، تمّ تحويل على أثره المبلغ المطلوب لاستعادة لبنان حقه في التصويت.
وفيما كان الانطباع الأوّلي أنّ حجم المعضلة لا يتعدّى كونه روتيناً إدارياً، وأنّ المسألة يمكن معالجتها على غرار ما حصل في العام 2020 من خلال المسارعة في تسديد المبلغ، الّا أنه يتبين اليوم للأسف أننا على مشارف نفق مسدود الأفق.
أمّا في حال تقرّر عدم دفع المساهمات، وهذا خيار لا نحبّذه، على ما أوضحت، فيمكن حينها اللجوء إلى تطبيق المادة 19 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على الآتي:
-“لا يكون لعضو الأمم المتحدة الذي يتأخّر عن تسديد اشتراكاته المالية في الهيئة حقّ التصويت في الجمعية العامة إذا كان المتأخّر عليه مساوياً لقيمة الاشتراكات المستحقة عليه في السنتين الكاملتين السابقتين أو زائداً عنها، وللجمعية العامة مع ذلك أن تسمح لهذا العضو بالتصويت إذا اقتنعت بأنّ عدم الدفع ناتج عن ظروف خارجة عن إرادة العضو”.
– يعود للجنة الإشتراكات أن تُقدّم التصويت للجمعية العامّة بشأن الإجراء الواجب اتخاذه فيما يتعلق بتطبيق المادة 19 من الميثاق، لتتخذ الجمعية العامة القرار بشأنه (وفق المادة 160 من النظام الاجرائي للجمعية العامة). وتجتمع لجنة الإشتراكات سنوياً لمدّة 3 إلى 4 أسابيع، عادةً في شهر حزيران من كل عام. وستعقد لجنة الاشتراكات دورتها الثالثة والثمانين في الفترة من 5 إلى 23 حزيران 2023. وتنظر الجمعية العامة في تقرير اللجنة وتوصياتها في دورتها الرئيسية، وتتخذ القرار بهذا الشأن في شهر تشرين الأول 2023.
وتقول بأنّه على سبيل المثال، فإنّ الجمعية العامة قرّرت، بموجب الآلية المعروضة أعلاه، في تشرين الأول 2022، السماح لجزر القمر وساو تومي وبرينسيبي والصومال استعادة حق التصويت في الجمعية حتى نهاية دورتها السابعة والسبعين. ونشير من جهة أخرى، الى أنّ اليمن لم يفقد حقّه في التصويت، ذلك أنّ المملكة العربية السعودية قد تكفّلت بتسديد المستحقّات المالية المترتبة عليه.
الّا أنّ مغبّة هذه الآلية تكمن في أنّ الدولة المعنية ستُحرم من حقّ التصويت حتى حلول شهر تشرين الأول 2023 أي لفترة 10 أشهر، لحين اتخاذ القرار من قبل الجمعية العامة، التي تلتئم في الشهر المذكور. كما أن موافقة الجمعية العامة على السماح للدولة العضو بالتصويت ليست تلقائية، وتعتمد على تقييم دقيق للأسباب الموجبة التي يترتب على الدولة المعنية تقديمها بصورة معللة ودلائل حسّية، تبرز من خلالها عدم القدرة الجديّة على تسديد المبلغ.
وأكّدت الأوساط الديبلوماسية أنّ بعثة لبنان تعمل جاهدةً بطاقمها الديبلوماسي الضئيل (1+2) وطاقمها الإداري (المتململ أصلاً من تخفيض رواتبه أخيراً) إبقاء راية لبنان مرتفعة من خلال تواجد مُكثّف ومؤثر وفعّال في المحافل كافة، وتأمين حضور مضيء يحفظ لهذه الدولة الصغيرة بحجمها دور رائد في أروقة منظمة كان لبنان عضو مؤسس لها. ومع فقدانه لحق التصويت، ستُكبّل حركته، وسيخفت صوته في المحافل، ممّا سيُقوّض الزخم الذي يبقى لبنان بأمسّ الحاجة اليه حالياً في ظل الظروف الصعبة التي يمرّ بها.