مع بداية عام 2025، يواجه اللبنانيون مرحلة جديدة من التحديات والصمود، إثر عام مضى حافل بالأزمات التي بلغت ذروتها مع العدوان “الإسرائيلي”، الذي ترك بصماته المدمرة على كافة أنحاء لبنان، وأسفر عن مئات الضحايا وآلاف الجرحى، وتسبب بتشريد العديد من العائلات، بعد أن تهدمت منازلهم في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية والبقاع.
لكن وسط هذه المآسي، اختاروا مجدداً طريق الأمل والإصرار على الحياة، ليبدؤوا رحلة جديدة من المواجهة والتحدي وبناء غد أفضل. فما هي الخطوات العملية التي يمكن للبنانيين اتخاذها، لتخطّي هذه المحن وتحقيق النجاح في حياتهم؟ كيف يمكنهم وضع خطة بأنفسهم لضمان ترميم صحتهم النفسية والاجتماعية رغم الظروف الصعبة؟
حال اللبنانيين: يا جبل ما يهزك ريح!
وبينما ودع اللبنانيون عام 2024، الذي كان متخماً بالمآسي، حملت السنة الجديدة لهم تحديات أخرى، فالحرب كانت لها تأثير عميق في جميع مناطق لبنان، حيث لم ينجُ أي مكان من تداعياتها. مشاهد اللبنانيين تراوحت بين صرخات المهجرين وآلام الجرحى، وركام المنازل التي تحولت إلى أطلال. في خضم هذا الخراب، يبرز السؤال: ما الذي يجعل هذا الشعب قادرا على التكيف مع هذه المحن؟ ما سر قدرته على الصمود والتجاوز، رغم كل ما يواجهه من عقبات قد تبدو مستحيلة؟فمع دخول العام الجديد، تمسّك الناس بالأماني بدلاً من الاستسلام لليأس. رغم بساطة التحضيرات، كانت احتفالاتهم تحمل رسالة قوية تؤكد أن الشعب اللبناني، الذي عانى على مدار العقود، لا يزال يؤمن بأن المستقبل يحمل فرصاً أفضل حتى وسط الخراب والدمار. فكيف يمكنهم الحفاظ على هذا التفاؤل والتمسك به كدافع للنجاح والتقدم في حياتهم؟
المواءمة مع الواقع طوق نجاة!
وفي تعليق على هذه الروح الإيجابية، يشير مصدر في نقابة الاختصاصيين النفسانيين والاجتماعيين لـ “الديار” إلى أن “قدرة اللبنانيين على التأقلم مع الظروف الصعبة تنبع من قوتهم النفسية والاجتماعية المتجذرة في ثقافتهم وتاريخهم الطويل مع الامتحانات”. ويضيف أن “هذه القدرة على تجاوز المحن تعكس أيضاً حاجة الشعب إلى بناء أمل جماعي يعزز الصمود ويجدد الإيمان بأن الحياة، مهما كانت قاسية، تستحق العيش. فهل يمكن لهذا الطموح أن يكون العنصر الفاعل في خلق بيئة صحية نفسياً ومجتمعياً، تمكنه من مواجهة المستقبل بثقة أكبر؟ وفي ضوء هذا الرجاء، يبدأ اللبنانيون عامهم الجديد، حاملين معهم إرادة التغيير والإصرار على تجاوز العقبات، متحدين الظروف الصعبة التي مرّوا بها، ومؤمنين بأنهم قادرون على بناء غدٍ أفضل”.
كيف يمكن تجاوز الظروف الصعبة؟ يجيب المصدر “يتطلب التعامل مع التحديات بهذا الحجم جهوداً فردية وجماعية، تضع الإنسان على طريق التعافي وإعادة البناء، سواء مادياً أو نفسياً. ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز القدرة على الصمود يصبح أمراً جوهرياً في مواجهة المصاعب. لذلك يمكن الوصول الى هذه الكفاءة، من خلال مجموعة من الخطوات التي تساهم في الفوز على المحن، وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، مع التركيز على الحلول التدريجية والمستدامة”.
تقبل الواقع والعمل على تغييره تدريجياً
ويشير المصدر إلى أن “أولى مسارات تجاوز المحن، هي تقبل الواقع كما هو دون إنكار أو تهويل. وهذا لا يعني الاستسلام، بل الاعتراف بالمشكلة، والعمل على إيجاد حلول عملية تدريجية لها. ومن هنا، يمكن البدء بتحركات بسيطة لتحقيق الاستقرار النفسي مثل: تنظيم الوقت، ممارسة التأمل، أو الحصول على دعم من الأصدقاء والعائلة. وهذه الخطط تساهم في تقوية قدرة الفرد على التلاؤم مع المواقف الصعبة، وتجعله أكثر استعداداً لتحمل التحديات القادمة”.
التطلع إلى المستقبل بعقلية إيجابية
ويلفت المصدر الى انه “رغم قساوة الواقع، يعتبر الحفاظ على روح الايجابية من العوامل الأساسية لتجاوز المحن. اذ تعكس الاحتفالات التي نظمها اللبنانيون مع بداية العام الجديد، رغم بساطتها، إصرارهم على استقبال المستقبل بعقلية منفتحة، مما يعزز الأمل في تغيير الظروف نحو الأفضل. وانصح بأن يشمل ذلك التطلع إلى الفرص المستقبلية، بدلاً من التمركز حول الصعوبات الحالية”. واكد المصدر ان “هذه العقلية تساعد في دفع الفرد نحو التقدم والتطور رغم التحديات المستمرة”.
طلب المساعدة المهنية عند الحاجة
ويختم المصدر “لا يستطيع الإنسان أن يعتمد على نفسه فقط في مواجهة الأزمات الكبرى. فطلب المساعدة من المتخصصين النفسانيين والاجتماعيين، خطوة حاسمة في تجاوز الأزمات النفسية التي قد تعيق التقدم. فضلا عن ان التدخل المبكر يمكن أن يسهم في علاج التوترات النفسية، مثل القلق والاكتئاب، ويعزز قدرة الفرد على المواءمة والتعامل مع الظروف الصعبة بشكل أفضل.
حالة لا مثيل لها!
من جهتها، توضح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية الدكتورة غنوة يونس لـ “الديار” أنه “منذ سنوات، والشعب اللبناني يمر بموجة غير مسبوقة من الأزمات المتتالية، بدأت بالأزمة الاقتصادية، مروراً بجائحة كورونا، وصولاً إلى الحرب التي هزّت أسس الاستقرار الاجتماعي والنفسي في البلاد. ومع ذلك، نراه يتأقلم، يتحدى، بل ويحتفل بالحياة، وكأنها رسالة متجددة تؤكد أن الأمل هو نبضه الذي لا ينطفئ”.
وتقول: “كمتخصصة في الصحة النفسية، أرى في هذا الصمود ظاهرة تستحق التأمل، وذلك لان اللبناني يتمتع بقدرة هائلة على التكيّف والمرونة النفسية (Resilience)، وهي مهارة تجعله يتجاوز المحن، ويعيد بناء حياته اليومية بطريقة تعكس شغفه بالحياة. وهذا ما يميّزه عن غيره؛ فهو لا يكتفي بتجاوز الصعوبات، بل يسعى الى إيجاد مساحة للفرح، مهما ضاقت السبل. وهذه المرونة لم تأتِ من فراغ بل من تجارب متراكمة، من منظومة دعم اجتماعي وعائلي، بإيمان، بثقة بعزم وقدرة على مواجهة التحديات”.
وتتابع “لكن خلف هذا البريق تكمن حقيقة لا يجب أن نتجاهلها. فبينما يتمتع الكثيرون بالطاقة على مواجهة التحديات، هناك شريحة من الناس تكافح بصمت مع آثار نفسية عميقة خلفتها هذه الأزمات”. وتقول “يعاني البعض من الاكتئاب، القلق، اضطرابات ما بعد الصدمة، أو حتى صعوبات في التعامل مع فقدان الأحبة أو الاستقرار. وهنا تتجلى أهمية أن نكون واقعيين في النظر إلى هذه المرحلة، حيث لا يعني الفرح دائماً أن الداخل بخير”.
وتوجهت الى هؤلاء الأشخاص بالقول: “الوقت لم يفت لطلب المساعدة، اذ ليس عيبا الاعتراف بالحاجة الى دعم متخصص. وفي الواقع، هذه الخطوة هي القوة الحقيقية، لان الصحة النفسية ليست رفاهية، بل هي أساس لمواجهة الحياة بمرونة وإيجابية”. ودعت الجميع “إلى تغيير مفهومهم عن المعاناة النفسية، اذ عندما نرشد الفرد الى ان يكون قويا، لا يعني أن يتحمّل بمفرده كل شيء. وبناء على ما تقدم، اثبت اللبنانيون للعالم أنهم شعب لا يعرف الاستسلام، ولكن هذا لا يعني أن يختاروا الوحدة في مواجهة الألم”.
وتختتم حديثها بالتنويه إلى أن “الحياة تستحق أن نعيشها بسلام داخلي. فكما نؤمن بقدرتنا على الاحتفال حتى في أصعب الظروف، يجب ان نجعل من سعينا الى تحسين صحتنا النفسية خطوة أولى نحو حياة أكثر توازناً”.