في زواريب الأحياء المكتظة، حيث تلتصق البيوت ببعضها كما الهموم، تنمو ظواهر اجتماعية لا تجد من يردعها، بل تُطبع وتُمرَّر كما لو كانت جزءاً من “الاعتياد اليومي”. واحدة من أخطر هذه الوقائع هي الدعارة العلنية والمقنَّعة، التي لم تعد تقتصر على المساحات المظلمة أو زوايا “الإنترنت”، بل خرجت إلى العلن، وتسللت إلى قلب المناطق الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية، حيث يسهل أن تضيع ملامح الجريمة في زحمة الفقر والإهمال.
في مشهد عبثي مرير، ترصد “الديار” فتيات بين سن السادسة عشرة والثامنة عشرة، قاصرات بموجب القانون، يتجولن على الأرصفة بانتظار أن “يصطدن” من يمرّ بهن، كما الطيور الضعيفة في زمن القسوة. يتواجدن امام اعين المارة في برج حمود والدورة والنبعة ومداخل الاشرفية والجميزة. ويحدث ذلك من دون رقابة ولا حماية. يُمارَس الفعل علناً، والعرض يُقدَّم بلا مواربة، كأنما تحوّلت الأجساد إلى سلعة مكشوفة، لا صوت يثني من يروّج، ولا يد تمتد لتنقذ من يسقط.
يبقى الاستفسار محقا لنا كإعلام: من المسؤول؟ وهل يمكن لوزارة الشؤون الاجتماعية أن تكتفي بتقارير خجولة؟ أين دورها الى جانب وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية في إطلاق خطط الطوارئ الإنقاذية؟ وهل يكفي أن نحذر من الانحراف دون أن نحاصر أسبابه؟
من زاوية أخرى، لا يكتفي علم الاجتماع بوصف المشكلة، بل يبحث في جذورها، ويقترح المعالجات قبل حدوث الانفجار. نحن أمام فئة هشّة، تم استسهال استدراجها إلى عالم الدعارة نتيجة الفقر والتفكك الأسري وانعدام التوعية. ولا تبدأ المعالجة من السطح، بل من العمق: عبر برامج تدخل ميداني وحماية اجتماعية وإعادة دمج وتربية جنسية مبكرة في المدارس.لكن، هل المجتمع جاهز ليعترف بالمشكلة، أم أن الصمت لا يزال أسهل من المواجهة؟
الوقاحة في ازدياد!
يوضح رئيس نقابة مستشاري ومدربي تطوير الذات “Life Reconstructers” أحمد يوسف، لـ “الديار” أنّ “ظاهرة فتيات الليل ليست أمراً جديدا، فهي قديمة، لكن ربما كان لها في السابق نظام اجتماعي وقوانين مختلفة. وما نشهده في الفترة الأخيرة أنّ الأمر بات يُمارَس بطريقة أكثر وقاحة، وسط لامبالاة، لا سيّما من قِبَل الفتيات اللواتي يقمن بهذا الفعل، وكأنّه أصبح مسألة عادية وبسيطة جدا”.
غياب الدولة وتراجع دورها الأمني
ويضيف: “هذه القضية مرتبطة بعدة أسباب:- أولا: الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي مررنا بها.- ثانيا: شهدت الدولة تراجعاً ملحوظاً في أداء مظاهر الحياة الأمنية، حتى فترة تشكيل الحكومة منذ نحو شهرين تقريبا، حيث بدأنا نشعر ولو قليلاً، بأن الدولة عادت إليها الحياة. إذ إن غيابها طوال هذا الوقت عن ممارسة مهامها الحقيقية، أدّى إلى جعل فئة من الناس تستسهل القيام بأي أمر، أو تعيش كما يحلو لها، دون مانع أو محاسبة. لذلك، فإن جميع المظاهر وليست فقط ظاهرة فتيات الليل، بل أيضا احداث أخرى كنّا نراها في السابق باستحياء، أصبحنا نشاهدها اليوم بصلف وبكثرة”.
التطبيع مع التفاهة
ويتابع: “السبب الأخير، الذي أعتبره من وجهة نظري الأهم، والذي بدأ منذ نحو عامين وسيستمر في التزايد مستقبلًا، هو التحوّل الرقمي الحاصل على الصعيد العالمي. وبالتركيز على لبنان، في ما يتعلّق بالتحوّل الرقمي، فقد أصبحت لدينا مهن جديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تقوم على بيع السخافة والتفاهة وبيع الذات. وهذا الأمر بات مألوفاً جداً، ويُمارس بطريقة بسيطة وعلنية، والأقذر من ذلك أنه يُشجَّع عليه، ويحاول الجميع النجاح فيه بأي وسيلة ممكنة، حتى يصبح مصدرا جديدا للرزق”.
ويشرح: “إذا اصبحت هذه الوقاحة أو التفاهة مصدرا رئيسيا للشهرة وللحصول على المال من خلال شبكات التواصل، فمن الطبيعي أن نراها بالعين المجرّدة في الشوارع، وكأنها تحوّلت إلى “وسيلة تواصل حقيقية على الأرض”. لذا، بات المشهد مكشوفا وملموسا، بل الأخطر هو تعاطي الناس مع هذا الأمر وكأنه طبيعي وعادي. من هنا، أعتبر ان هذا العامل هو الأخطر، لأنه لن يقف عند هذه الحدود”.أين سيصل هذا التحول الرقمي الكبير؟ وما هي نهايته؟ يجيب يوسف: “لا أحد يعلم”.
الانفلات الأخلاقي “جرأة”!
واكد ان “ما يحصل يندرج في إطار الوقاحة، إلى جانب التراجع في مظاهر الأخلاق والحشمة الاجتماعية، انطلاقًا من الأسباب التي تحدّثت عنها سابقًا. وبالتالي، قد نشاهد فتاة وقحة تلاحق رجلاً رغم أنّه قد يصدّها، وقد نرى ما هو أوقح من ذلك، إذ قد تُمارَس الدعارة على الطريق بشكل غير مخفَّى، وفي الأماكن العامة. وأتوقّع تنامي هذه الحالات، إلى جانب تضاعف بشاعتها، فمظاهرها ستتكاثر، لأنّ الانفلات الاجتماعي – الأخلاقي، وخصوصا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بات بلا قيود”.
فتيات الليل”… وراءهن شبكات مُنظمة
ويكشف يوسف “أنّ الدعارة تقف خلفها دائما جهات منظّمة، إلا أنّ بعض هذه الكيانات كانت في السابق شبه شرعية وشبه مقوننة. أما اليوم، فثمّة روابط جديدة خارج هذا الإطار “المقونن” والمتعارف عليه، تتشكّل نتيجة الحروب في المنطقة، والأوضاع في سوريا، والفقر، والمشكلات المادية، والانفتاح غير المنظّم. فجميع هذه العوامل ترتبط بالأسباب التي ذكرتها سابقا”.
ويتابع: “بناءً على ما تقدّم، هناك من يستغل مشاكل بعض الفتيات أو ظروفهن الصعبة، ويدفعهن إلى العمل في الدعارة. وفي المقابل، برزت ظاهرة أخرى، تتمثّل في أنّ بعض الفتيات يقدمن على هذا الفعل من تلقاء أنفسهن، أي يقمن بفتح “خطوط” خاصة بهن. لكن في معظم الحالات، تنخرط الأغلبية ضمن شبكات منظّمة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة”.
الحد من هذه الحالة “ممكن”!
ويعبر بخوف: “أشك في قدرتنا على تقييد هذه التصرفات، لكن يمكن التقليل من حجمها أو أثرها الاجتماعي، إذا كان هناك تدخل جدي من القوى الأمنية، والتشريعات المتخذة في هذا القطاع. لكن المشكلة تكمن في أنّ البلاد غارقة في كمّ هائل من الازمات، ولا تملك الإرادة والوقت لإقرار قوانين تعتبرها ثانوية، أمام عقبات أكبر تواجهها في الوقت الراهن. لذلك، أتوقع أنه ليس سهلا وضع حدود لهذه القضية، رغم تحسّن الوضع الأمني وعودة الدولة بشكل أفضل، والذي سيتحسن جزئيا، لأن لدينا سببا خارج إطار الدولة يتمثل في التحوّل الرقمي”.
وينوّه إلى أن “هذه الانعكاسات تتعاظم كلما ازدادت لدينا المشكلات النفسية والاجتماعية والأمنية. فكل هذه الأسباب المباشرة موجودة إلى جانب العامل الرئيسي، الذي هو خارج نطاق سيطرتنا، والمتمثل في شبكات التواصل الاجتماعي. فليس هيناً التحكم بهذا الجانب عبر ضبط المحتوى الاجتماعي، الذي يُبثّ على منصات مثل “تيك توك” و”انستغرام”، أو كبح المضمون، إذ تتطلب هذه الأمور قرارات كبرى وجرأة، واتجاها أخلاقياً معيناً، من خلال وضع سياسات تمشي عليها المجتمعات”.
ويختم يوسف : “بعيدا عن مجهود الدولة في هذا السياق، فان احتضان المؤسسات الاجتماعية القادرة على احتواء هذه العائلات والفتيات، لا سيما اللواتي يعانين من تحديات اجتماعية واقتصادية، يعتبر ضروريا، إذ يضطررن إلى بيع أنفسهن والعمل في هذه المهنة، من أجل العيش أو مساندة أهلهم أو أولادهم، ونسبة كبيرة منهن يذهبن للعمل في هذا المجال تحت الضغط والتهديد، وفئة أخرى تجد في هذا المسار الأسهل سبيلًا للمعيشة”.
تحرك لضبط الوضع
على المستوى الرسمي، يقول مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية لـ “الديار” إنّ “ما يحدث أمر مؤسف وخطر، وللدولة دورا أساسيا في الحد من ظاهرة “بنات الهوى”. ويكشف عن تنسيق متواصل بين وزارات الشؤون والداخلية والعدل في هذا الموضوع، مشيرا الى “وجود تحرك فعلي لضبط هذا الانفلات ووضع حد لتفاقم الظاهرة”.
تكاثر الشبكات وخطورتها
من جانبه، يكشف مصدر امني رفيع لـ”الديار” أن شبكات استغلال الفتيات، وعلى وجه الخصوص القاصرات، باتت تتكاثر كالفطر، مشكّلة خطرا بنيويا على المجتمع”. ويوضح أن “المسألة لا تقتصر على منظمات تقليدية، بل ظهرت اشكال أشد خطورة: افراد عاديون، لا صلة لهم بعصابات، يجبرون قاصرات على الانخراط في هذا العالم”.
ويشير المصدر الى ان “هناك فتيات يسلكن هذا الطريق في سن مبكرة، في غياب أي حماية او بدائل، ما يجعل من الظاهرة أكثر تجذرا وتعقيدا”.ويختم بالإشارة الى ان “الأجهزة الأمنية تقوم برصد الأماكن التي تنتشر فيها هذه الحالات، وتسيِّر دوريات “، مؤكدا ان الإجراءات المتخذة بحق المتورطين قائمة، وان كانت غير كافية حتى اللحظة”.