يخطىء من يعتقد من اللبنانيين بأنّ المجتمع الدولي سيقدّم أيّة مساعدات للبنان تعينه على تجاوز أزمته، حتى ولو طبّق اليوم، ودفعة واحدة، كل الإصلاحات التي يُطالَب بتنفيذها. ومن يقول خلاف ذلك، فهو إمّا مكابر او مخادع يغش نفسه ويخدع اللبنانيّين، وإمّا هو أحول أو أعشى لا يصل نظره إلى ما خلف الحدود ليعرف كيف يُنظَر إلى لبنان من هناك، وأين موقعه في أجندة الاهتمامات والأولويات.
قد يسارع البعض الى ادراج هذا الكلام في سياق التشكيك بصدق نوايا المجتمع الدولي تجاه لبنان، او في أحسن الاحوال اعتباره فرضيّة تشاؤميّة مبالغ فيها، الا ان ذلك لا ينفي ابدا أنّ هذا الكلام هو:
حقيقة صارخة تنطق بها أفواه السفراء، وتجافي تلك اللازمة التي يكرّرها بشكل شبه يومي، مسؤولون دوليّون سياسيّون وماليّون، ويُلقون على من يسمونهم «قادة لبنان» مسؤوليّة الإيفاء بالتزاماتهم التي قطعوها بإجراء إصلاحات تفتح باب المساعدات الدولية للبنان، ويطلبون من الحكومة ما يعرفون هم قبل غيرهم، انها لا تستطيع ان تقوم به.
في مجالس السفراء، كلام محرّر من كلّ القيود الديبلوماسيّة، يقارب الواقع اللبناني بصراحة مطلقة كما هو، يعكس الموقف الدولي من لبنان على حقيقته، وهذه عيّنات ممّا يستخلص من كلام السفراء:
– ظاهر كلام السفراء، يحمل تكرارا لمواقف تقليدية تتوالى منذ ما سميت بـ»ثورة 17 تشرين»، تبدأ بالاعراب عن «الحزن على لبنان والتعاطف مع الشعب اللبناني والخوف من تفاقم معاناته، لأنّ وضع لبنان صار ميؤوساً منه»، وتنتهي عند التأكيد «ان لا بعد خارجياً لأزمة لبنان، بل ان اسبابها داخلية افتعلها الطاقم السياسي المسؤول عن انفجارها».
– اما في جوهر كلام السفراء، فتكمن حقيقة صادمة للغارقين في وهم ان لبنان يشكل محور السياسات الدولية، ويحتل موقعا متقدما في قائمة الاولويات والاهتمامات؛ حيث يعكس السفراء انّ جلّ ما يهمّ دوائر اتخاذ القرار في دولهم، هو التعامل مع تداعيات الازمة في لبنان وليس مع الازمة نفسها وسبل معالجتها من اصلها، وبالتالي لا مبادرات انقاذية تجاه لبنان لا أميركية ولا فرنسية ولا عربية أو حتى شرقية. وربطاً بذلك، فإنّ أيّ ديبلوماسي عربي او غربي يُسأل عمّا يمكن ان تقدمه بلاده للبنان، يجيب بشكل تلقائي: «الحل عندكم هنا في لبنان».. وعندما يلحّ بالسؤال: «كيف»؟ يأتي الجواب: «لا نعرف، اللبنانيون يعرفون ما يجب عليهم ان يفعلوا». وعندما يلح بالسؤال اكثر يحمل كلام السفراء ما يفيد بأن اقصى ما يمكن ان يناله لبنان في المرحلة الحالية هو تصريحات ونصائح على شكل مهدّئات تبقي الحال على ما هو عليه حالياً، تحول دون بلوغه حد الانفجار الكارثي الذي يصعب احتواؤه».
– لا يقارب السفراء تعطيل الحكومة بحماسة الداعي الى إعادة إطلاق عجلتها، فلا مشكل ان بقيت الحكومة معطلة لفترة غير محدودة ولكن شرط ألا تستقيل ويجب ان تبقى قائمة، فالمسلّم به لديهم أنّ هذه الحكومة شُكّلت لمهمّة محدّدة مرتبطة بإتمام الاستحقاق الانتخابي لا اكثر ولا أقل.
وربطاً بهذه المهمّة، يقول احد الوزراء انه سمع شخصياً من شخصيات ديبلوماسية اميركية وفرنسية التقاها، كلاما ينعى الحكومة ومهمتها، حيث قيل له صراحة: «حكومتكم معطوبة، والعطب الذي أصابها ليس ناجماً عن التطورات الاخيرة، انما هو عطب أصابها من لحظة تشكيلها. فقد قلتم انكم تريدون حكومة اختصاصيين، ولكنكم دخلتم في صراع سياسي مكشوف حول الحصص وبعض الوزارات، وفي النهاية شكّلتم حكومة سياسية مقنّعة، ضمّت وزراء اختارهم السياسيون وسمّوهم اختصاصيين».
«بمعزل عن شكل الحكومة اكانت سياسية او اختصاصية، فقد شكلت فيما الوقت لا يلعب لمصلحة لبنان، ونتيجة لذلك، اضافة الى حجم التعقيدات الداخلية، لن تتمكن هذه الحكومة من ان تسبق الوقت، حيث من الاساس لم نعوّل على أن تتمكن من ان تفعل شيئاً في عمرها القصير على صعيد الاصلاحات الكثيرة والكبيرة التي يحتاجها البلد، لأننا متيقنون من عجزها أولاً، ومدركون ثانياً انها ستصبح خارج الخدمة اعتباراً من كانون الاول المقبل حيث ستدخل ويدخل معها مجلس النواب وسائر المكونات السياسية في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية».
«انّ أقصى المطلوب من الحكومة، هو امران:
– الاول، إدارة الازمة بالحد الذي لا يجعل الامور تفلت، ولذلك توالت نصائح المجتمع الدولي بأن تنصرف الحكومة قبل كلّ شيء الى ان تعطي الاولوية للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، والتركيز على برنامج متواضع يمكّن اللبنانيين من ان ينتقلوا من «الوجع العظيم» الى «الوجع القاسي»، وقلنا للبنانيين بكل وضوح لا تعوّلوا على ان تأتيكم اموال من الصندوق». هنا يستوضح الوزير محدثه الاميركي: «معنى كلامك انه لن تدفع اموال للبنان قبل الانتخابات النيابية»؟ فيجيب جازماً: لن يُدفع ولو دولار واحد».
من هذا الجزم، يقول الوزير المذكور انه استخلص «ان لا جدوى تُرجى من الرهان على مساعدات خارجية، والتخبّط في الأزمة سيبقى على أشده، ذلك انّ التعاطي الدولي الجدي مع لبنان، إن كان هناك من تعاط أو مساعدات، سيكون فعلياً مع الحكومة التي ستتشكّل بعد الانتخابات، واغلب الظن الانتخابات الرئاسية».
– واما الامر الثاني، فهو ان تحضّر الحكومة للانتخابات النيابية، وتشرف على اجرائها في مواعيدها، بكل شفافية ونزاهة.
المعلومات المؤكدة في هذا السياق، تفيد بأنّ سفارات بعض الدول الكبرى التي تقف على تماس مباشر مع الملف اللبناني، عكفت منذ مدة على إجراء لقاءات مع خبراء في المجال الانتخابي وفي عالم الاستطلاعات والاحصاءات، وبعضها طلب دراسات تقديرية للخريطة المقبلة التي ستفرزها الانتخابات. مع طلب أجوبة عن اسئلة مباشرة عن مدى تأثّر التيار الوطني الحر وما سيكون عليه حجمه في تلك الانتخابات، وكذلك الامر بالنسبة الى ثنائي حركة «امل» و»حزب الله». اضافة الى حجم وتأثير تصويت المغتربين على مجمل الصورة الانتخابية.
اما السفراء في مجالسهم، فيتجنّبون الحديث عن تلك الدراسات واللقاءات، وعما انتهت اليه خلاصاتها، بل يقولون فقط انّ ثمة إجماعاً دوليّاً على اجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها اكان في آذار او في ايار المقبلين، باعتبارها محطّة مفصلية، ينبغي، في رأيهم، أن تحمل معها ما ينشده اللبنانيون من تغيير حتمي في الخريطة النيابيّة تعدّل ميزان القوى الداخلي، وتفرز فريق حكم جديد للبلد نقيض للفريق الحاكم في هذه المرحلة.
على انّ ما يلفت الانتباه في ما يورده السفراء، ان الصورة الانتخابية ليست واضحة بالنسبة اليهم، ويبدو انهم لا يؤخذون بالمبالغات التي تتحدث عن تغيير انقلابي ستحدثه الانتخابات، فهذا الكلام لا يصرف لدى السفراء، لأنه يستبق ما ستفرزه صناديق الاقتراع من نتائج. وعلى الخط نفسه، يحاول السفراء ان يركنوا للتطمينات والالتزامات التي يقطعها القيمون على الانتخابات بإجرائها في مواعيدها المحددة، لكنهم يبدون حذرين ومهجوسين بالعامل الامني، الذي يُخشى ان يكون سبباً يفتعله «متضررون» لتعطيل الانتخابات.
امّا الخشية الاكبر من العامل الأمني لدى السفراء، فهي من ألّا يحصل التغيير المنشود في الانتخابات المقبلة، فإنْ جاءت هذه الانتخابات بخريطة نيابية شبيهة بالخريطة الحالية، فذلك يعني هزيمة مدوّية لمنطق التغيير، وأنّ كلّ ما بني عليه من احلام وآمال منذ 17 تشرين الاول 2019 قد ذهب هباء.. اما أزمة لبنان فستبقى في سلبياتها.