لا يُخفى على أحد أنّ ترسيم الحدود البحرية مع قبرص وسوريا ستكون أسهل من الترسيم الذي حصل مع العدو الإسرائيلي واستلزم سنوات الى أن جرى التوصّل الى توقيع الاتفاقية في 27 تشرين الأول الفائت برعاية أممية ووساطة أميركية. غير أنّه لن يتمّ في الوقت نفسه بالسهولة التي يعتقدها البعض خصوصاً في ظلّ الشغور الرئاسي الذي تشهده البلاد منذ 3 أسابيع، وفي ظلّ عدم وضوح العلاقة السياسية مع سوريا منذ بداية الأزمة فيها في آذار من العام 2011 وتعليق عضويتها في جامعة الدول العربية في تشرين الثاني من العام نفسه. فهل يمكن إجراء المفاوضات وإنجاز الاتفاقية بين الأطراف الثلاثة من دون الحاجة الى وسيط، على ما يُفترض، بين دول صديقة؟!
ترى أوساط ديبلوماسية عليمة بأنّ حكومة تصريف الأعمال الحالية لا تبدو مستعجلة لتوقيع اتفاق الترسيم مع قبرص لتصحيح خط الحدود البحري من 1 الى 23، كونه يتطلّب حُكماً التوافق مع سوريا لا سيما على النقطة 7 شمالاً التي تعني الأطراف الثلاثة. وإذا كانت قبرص مستعدّة لمناقشة المستجدّات مع لبنان لا سيما بعد توقيعه اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلي بوساطة أميركية كونها منخرطة في إنتاج النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط التي تحوّلت الى وجهة جديدة للدول الأوروبية لتأمين هاتين المادتين لشعوبها، غير أنّ سوريا ليست كذلك، على ما يبدو، كونها منشغلة بشؤونها الداخلية، ولديها بعض التحفّظات التقنية والسياسية تجاه لبنان. ولهذا جرى تأجيل موعد اجتماع الوفدين اللبناني والسوري للبحث في مسألة الترسيم الذي كان مقرّراً في 26 تشرين الأول الفائت أي قبل يوم من توقيع اتفاقية الترسيم مع العدو الإسرائيلي.
واستبعدت بالتالي التوصّل الى اتفاق سريع بين الاطراف الثلاثة من دون عقد إجتماعات ثلاثية وتكثيفها كون الإتفاقية تتطلّب الخوض في الكثير من الأمور الفنية والتقنية، قبل الحديث في السياسة وفي نتائج هذه الاتفاقية على كلّ من الدول المعنية. ففرصة التسوية بينها لم تنضج بعد، ما يجعل المسألة تتأجّل الى ما بعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة تعمل على وضع بيانها الوزاري، وتبدأ بالعمل على أساسه في كلّ العناوين المعلّقة والتي تحتاج الى حلول جذرية.
وتساءلت الأوساط نفسها إذا ما كانت مسألة تحريك المفاوضات بين الأطراف الثلاثة تتطلّب تدخّل وسيط ما، قد يكون روسيا أو أي دولة فاعلة أخرى في المنطقة، سيما وأنّ روسيا أعربت عن جهوزيتها للتدخّل والمساعدة للتوصّل الى حلّ للنزاع الحدودي، رغم أنّ هناك معالم حدودية واضحة وفقاً للقانون الدولي، على عكس ما كان في الجنوب، مع “الإسرائيلي”. ولكن هل تريد روسيا فعلاً الخوض في هذه الوساطة، بعد أن بدأت بسحب يدها من لبنان شيئاً فشيئاً من لبنان، مع “سيطرة” الولايات المتحدة على بعض المفاصل الداخلية، وإن كانت لا تزال موجودة بقوّة في سوريا؟!
وعقّبت الأوساط، بأنّ خير دليل على ذلك هو إنسحاب شركة “نوفاتيك” الروسية، صاحب الحقّ غير المشغّل، في آب الفائت أي قبل نحو شهرين من توقيع إتفاقية الترسيم مع العدو الإسرائيلي، من “كونسورتيوم” الشركات الذي لزّمته الحكومة اللبنانية أعمال الإستكشاف والإنتاج في البلوكين 4 و9 في المياه البحرية اللبنانية، في العام 2017. وأبلغت السلطات اللبنانية “نوفاتيك” لاحقاً بأنّها استحوذت على حصّتها في الاتفاقيتين المعقودتين مع التحالف والبالغة 20%، بعد تنفيذ أحكام التنازل الجبري المنصوص عليها في المادة 36.2 منهما. فيما تمتلك كلّ من “توتال” الفرنسية، و”إيني” الإيطالية 40% بعيداً عن النسبة الروسية التي نالتها الحكومة اللبنانية. وقد جرى تكليف هيئة إدارة قطاع البترول بـ “إدارة نسبة مشاركة الدولة في كلّ من الاتفاقيتين والعمل مع صاحبي الحقّ الآخرين أي “توتال” و”إيني” بعد إنفاذ التنازل الجبري على بحث الترتيبات المالية والتشغيلية العائدة لتنفيذ الأنشطة البترولية في الرقعتين 4 و9″.
وفيما يتعلّق بألأسباب التي أدّت الى انسحاب “نوفاتيك”، أشارت الأوساط عينها الى أنّ الشركة الروسية عزت اتخاذها هذا القرار الى الأوضاع في روسيا في أعقاب العقوبات الأميركية عليها. ولا يُعرف إذا ما كانت واشنطن قد ضغطت على روسيا للإنسحاب من “نفط شرقي البحر الأبيض المتوسّط”، لا سيما بعد حربها على أوكرانيا، ووقف تصديرها النفط والغاز الى الدول الأوروبية. ولهذا قد يكون من الصعب على روسيا حالياً أن تكون وسيطاً بين لبنان وسوريا وقبرص لإنجاز اتفاقية الترسيم بين الأطراف الثلاثة، او أن تتدخّل في ملف إعادة النازحين السوريين الى بلادهم، على ما فعلت منذ سنوات من خلال المبادرة الروسية بشأن إعادتهم الى مناطقهم في سوريا، من دون أن تلقى أي تجاوب لا من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان، ولا من المجتمع الدولي تجاه مبادرتها هذه. وقد عملت على تحقيق عودة لأكثر من 270 ألف نازح سوري بالتعاون والتنسيق مع مدير عام الأمن العام اللواء ابراهيم عبّاس الذي نظّم 18 حملة “عودة طوعية” منذ منتصف أواخر العام 2017، كما جرى تسهيل عودة السوريين عبر المراكز والمعابر الحدودية وتسوية أوضاعهم… إلّا أنّ عدد النازحين السوريين في لبنان لا يزال حتى الآن مليونين و80 ألفاً رغم الأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية غير المسبوقة التي تمرّ بها البلاد.
وذكرت الأوساط بأنّه لا بدّ من انتظار نضوج التسوية الإقليمية والدولية وانعكاسها على الوضع في سوريا، كما في لبنان. عندئذ تتوضح الصورة أكثر بالنسبة الى التعاطي السياسي بين البلدين وعلى أي قاعدة، لا سيما بعد انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة الجديدة التي ستُحدّد سياستها الخارجية مع جميع الدول. علماً بأنّ اللجنة المعنية بعملية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص وسوريا يرأسها حالياً وزير الأشغال العامّة والنقل علي حميّة في حكومة تصريف الأعمال، الذي وعد بعقد الإجتماعات لمقاربة الأمور بشكل هادىء مع كلّ من قبرص وسوريا ولمصلحة جميع البلدان وفق القوانين العالمية ووفق القانون اللبناني، وأنّه لن يتسرّع في هذا الموضوع، بل سيأخذ الوقت الكافي للقيام بقراءة عملية ترضي كلّ الأطراف. وقد عقد اجتماعاً مع الوفد القبرصي غير أنّ الإجتماع مع الوفد السوري تأجّل في اللحظة الأخيرة.
أمّا المنطقة البحرية المتنازع عليها مع سوريا فتتخطى مساحتها الـ 900 كلم2، على ما تفيد المعلومات، ومن شأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا أن يؤثّر في الإحداثيات التي على أساسها سيجري ترسيم الحدود مع قبرص. ولهذا لا بدّ من الاتفاق مع سوريا كمدخل اساسي للتوصّل الى اتفاق مع قبرص. ويعود الخلاف بشأن المساحة الواقعة عند الحدود الشمالية للبنان إلى العام 2011، حيث اعتمد كلّ طرف خطّاً حدودياً مختلفاً عن الآخر، وهما خطّان متداخلان بينهما، الأمر الذي شكّل منطقة متنازعا عليها. وأثير الخلاف مجدداً في العام 2021، بعد أن منحت دمشق ترخيصاً لشركة طاقة روسية لبدء عمليات التنقيب في تلك المنطقة، في وقتٍ يتطلّع فيه لبنان حالياً إلى الإستفادة من ثروته النفطية كاملةً في البحر المتوسط لتحسين وضعه الاقتصادي والمالي المنهار.