في لقاءاته الأخيرة مع المسؤولين اللبنانيين، عبَّر وفد صندوق النقد الدولي عن صدمته من كميّة الضخّ السياسي والإعلامي التي تلجأ إليها السلطة، والتي يُراد منها الإيحاء بأن الصندوق راضٍ عن سلوكها الإصلاحي، وبأن الاتفاق على برنامج تمويل يسير في الاتجاه الصحيح.
أجواء صندوق النقد توحي بأنه مستاء من التسريبات «المدسوسة» والتي تشوِّه حقيقة موقفه في المشاورات مع الجانب اللبناني، وآخرها الادعاء أنّ اقتراح قانون «الكابيتول كونترول» الذي أرسلته الحكومة إلى المجلس النيابي، ولم يوافق عليه، كان منسَّقاً مع خبراء الصندوق، وأن من الضروري إقراره سريعاً بالتزامن مع وصول وفد الصندوق إلى بيروت، بحيث يكون علامة إيجابية تمهِّد للاتفاق على برنامج التمويل.
ويقول المطلعون على موقف خبراء صندوق النقد إن هذا الأمر لا أساس له، وإن هؤلاء يُبدون الاستياء من نقل المواقف غير الصحيحة عن لسانهم.
فالصندوق يطالب منذ عامين بإقرار القانون سريعاً، ويريد أن يكون ضامناً لعدم إهدار ما بقي من احتياطات العملة الصعبة في لبنان، وأن يوزّع الخسائر في شكل عادل. وهذا القانون حيوي لفرملة الانهيار وتحضير الأرضية للانطلاق في أي عملية تعافٍ. لكن المعنيين لم يُبدوا أي تجاوب طوال هذه المدّة، وما زالوا.
وما جرى، بالنسبة إلى الصيغة الأخيرة من «الكابيتال كونترول»، هو أن الصندوق اطّلع على أفكارها وأبدى ملاحظات مبدئية ردّاً عليها، لكنه لم يعبّر عن موافقته على الاقتراح كجزء من خطة التعافي وبرنامج التمويل، وهو يعتبر أنها ما زالت تحتاج إلى الكثير من الدرس والنقاش والتعديلات قبل اعتمادها.
ويحتاج الصندوق إلى التأكد من معايير الشفافية في المؤسسات والمرافق، بعد إنجاز التدقيق في حساباتها وتشكيل الأطر الرقابية لعملها، ووقف مسار الفساد الذي تسبَّب في الانهيار. كما يريد البناء على أرضية ثابتة، أي الحصول على تعهدات من القوى السياسية بأن أي تغييرات في السلطة لن تشكل مبرراً للتنصّل من الالتزامات.
طبعاً، يسعى أركان السلطة إلى تصوير الموقف خلافاً لحقيقته. ولذلك، هم اعترضوا في الأسابيع الأخيرة على «تسريبات صحافية» تتعلّق بحقيقة الاتصالات التي جرت بينهم وبين صندوق النقد.
وقد ردَّ المعنيون في الصندوق على هذا الاعتراض بالقول: نحن ننظر إلى هذه التسريبات من زاوية مختلفة. فالصندوق، في مفاوضاته مع الدول، يفضِّل عادةً أن يعرف الرأي العام بما يجري من وقائع بدقّة ليكون على بيِّنة من الأمر، فيشارك في إبداء الرأي والتفاعل مع الخطوات المنتظرة. وهو لا يحبّذ أن «تهبط» القوانين والخطط على الناس «من فوق»، لأنهم هم المعنيون به في الدرجة الأولى. والمودعون في مقدّم هؤلاء.
وينطلق الصندوق في هذا الاقتناع من ضرورات براغماتية، لا أخلاقية فحسب. فأي نقمة اجتماعية تثيرها القوانين الجاري إقرارها اليوم يمكن أن تنسف محاولات تثبيت الاستقرار السياسي والمالي، وحتى الأمني. وهذا ما قد يجعل خطة التعافي ومجمل الاتفاق وبرنامج التمويل مع الصندوق مجرّد حبر على ورق، ويعيد الأمور إلى الصفر.
إذاً، وفد صندوق النقد موجود في بيروت حالياً للوقوف ميدانياً على مدى استعداد السلطة للموافقة على مطالبه الإصلاحية، وهي كثيرة. وبعد ذلك، هناك متّسع من الوقت لإقرار اتفاق على التمويل مع الدولة اللبنانية.
منطقياً، ليس وارداً الاتفاق خلال الشهرين المقبلين، حيث سينشغل لبنان بانتخاباته النيابية، إذا جرت في موعدها. ولا هو وارد في الأشهر الأولى من الصيف لأن لبنان سيكون في ظل حكومة تصريف أعمال، ولا حتى في الخريف لأن التركيز سيكون منصبّاً على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولا في الأسابيع الأولى من العهد الجديد.
إذاً، واقعياً، ليس هناك مجال لاتفاق مع صندوق النقد حتى نهايات العام الجاري، على الأقل. والصندوق يدرك ذلك، وهو يواكب ما يفعله المسؤولون وفق مقولة «إلْحَقِ الكذّابْ إلى باب داره». لكن الجانب اللبناني لم ييأس من محاولاته خداع الصندوق بسراب الإصلاح والتحقيق والتدقيق والشفافية، وآخرها «الكابيتال كونترول» المرتبك بين السرايا والمجلس النيابي.
وتالياً، يمكن تصوّر «السيناريو» المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، في الأشهر الـ9 الباقية من هذا العهد، والذي ستجعله الاستحقاقات الانتخابية بالغة السخونة. ولكن، هناك تحوُّلات متوقّعة أكثر تأثيراً، وستأخذ لبنان إلى مكان يصعب تحديده. وهذا ما يُفترض أن يدركه المعنيون في السلطة.
وفي عبارة أكثر وضوحاً، إن لبنان الذي أصبح تماماً رهينة النزاعات والتجاذبات والمصالح الإقليمية والدولية، لن يحصل من صندوق النقد على ليرة واحدة إلّا إذا استجاب لمتطلبات الإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي، والتي تستدعي في جوهرها إحداث تغييرات سياسية، وتحديداً عزل لبنان عن المحور الإيراني.
هذه التغييرات مستحيلة في ظل المعطيات القائمة. والباب الوحيد للتغيير يكمن في تمخُّض النزاعات الحالية عن تسويات معينة تأخذ لبنان في طريقها، أي انتظار ما سيقرره الأميركيون والإيرانيون والخليجيون وسوريا، وما تخطّط له إسرائيل وسواها.
ويعتقد العارفون أن صندوق النقد، في الاحتمال الأكثر تفاؤلاً، سيضع برنامجاً طويل الأمد لمنح لبنان دعماً مالياً بالتقسيط. وسيبرمج الدعم في شكل بطيء، ويرهن كل دفعةٍ مالية بخطوات إصلاحية. وسيتوقف الدعم فوراً عند أي تلكؤ من الجانب اللبناني. وعلى الأرجح، سيبقى أركان السلطة هاربين من الإصلاح ومعهم الصندوق هارباً من الدعم، حتى إشعار آخر.