يتخلى اللبنانيون عن محافظهم وجزادينهم الصغيرة، ويتجهون نحو حقائب أكبر تستوعب حجم الأموال النقدية التي باتوا يضطرون إلى حملها والتنقل بها يومياً في أعمالهم وتسوقهم وتسديدهم للمدفوعات.
فحمْل ما قيمته اليوم 100 دولار أميركي، كمصروف جيب، بات يساوي نحو مليونين و300 ألف ليرة لبنانية، ما يعني 23 ورقة نقدية من فئة الـ 100 ألف ليرة لبنانية، وهي أكبر الفئات الصادرة من العملة اللبنانية، ويتضاعف حجم الأموال كلما انخفضت قيمة الأوراق.
حلم الملايين يتحقق
لم يعد جيب ماهر أحمد يتسع لحجم الأموال التي يحملها معه يومياً، ما دفعه لاعتماد حقيبة جانبية باتت ترافقه أينما ذهب، “أحمل فيها أحياناً 20 مليون ليرة، خاصة في أول الشهر، وأنطلق في جولتي، التوقف على محطة الوقود بات يكلف مليوناً بشكل منفصل، فصفيحة البنزين الواحدة تكلف 450 ألف ليرة، فيما فاتورة المولّد تتجاوز المليونين، وكذلك الأمر مع فاتورة السوبرماركت، ثم إيجار المنزل 3 ملايين، قد تكلفك فاتورة مطعم مليون ليرة، كيفما اتجهت بات الحديث بالملايين، والأمر ليس مستغرباً فالمليون الواحد ما عاد يساوي 50 دولاراً”.
ويضيف في حديثه لموقع “الحرة” “كنا نحلم بامتلاك كل هذه الملايين، أستلمها رزما مختومة بشرائط، الـ 20 مليون كانت تعويضاً لنهاية خدمة في وظيفة وكانت تؤمن مستقبل عائلات وخططا تقاعدية، اليوم لا تساوي الـ 1000 دولار وتصرف في شهر واحد، عدا عن البعد النفسي للأمر خاصة وأنك تتعامل مع العملة نفسها بالصورة القيّمة نفسها، ولكنك تفرط بها يومياً بشكل هستيري لتلبية حاجاتك الأساسية”.
“أفكر أحياناً ماذا لو عادت قيمة هذه الأموال كما في السابق؟ كم سأندم على الملايين التي وصلت إلى يدي وصرفتها اليوم؟” يسأل ماهر، لافتاً إلى أن الأمر قد حصل سابقاً في الماضي القريب، “حين وصل الدولار إلى 33 ألف ليرة، مطلع العام، ثم انخفض إلى 20 ألفاً، هناك من جمع مليارات وهناك من خسر مليارات أيضاً، لا ثقة بعملتنا لذلك نستخدمها فقط في إتمام عمليات الشراء والبيع وأحولها سريعاً إلى الدولار”.
أموال بالصناديق والحقائب
يجسد هذا الواقع حجم الانهيار الذي لحق بسعر صرف الليرة، نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها لبنان منذ عام 2019، حيث فقدت العملة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، قابله ارتفاع ضخم في كلفة السلع والخدمات، المسعّرة وفقاً لقيمتها بالدولار، في بلاد تتكل بمجمل حاجاتها الرئيسية والثانوية على الاستيراد من الخارج، نظراً لطبيعة اقتصادها الريعي غير المنتج.
برز هذا المشهد بداية أمام مداخل المصارف ومحال الصيرفة وتحويل الأموال، لا سيما بعد تعميم مصرف لبنان رقم “161”، الذي أتاح استبدال الليرة اللبنانية بالدولار في المصارف على سعر منصة “صيرفة”، وسرعان ما بات هذا شائعاً في الأسواق مع اعتماد السوق اللبناني على التعاملات النقدية بشكل شبه حصري، وذلك بعدما تعثرت التحويلات المالية باحتجاز المصارف لأموال المودعين فيها، وفرضها سقوفاً للسحب شملت البطاقات الائتمانية والشيكات المصرفية، ما أفقدها قيمتها السوقية كوسيلة للدفع والتقاضي.
وتشير الإحصاءات الصادرة عن مصرف لبنان إلى تراجع عدد بطاقات الدفع بنسبة 7.93 في المئة، أي نحو 225 ألف بطاقة خلال العام الماضي لتصل إلى نحو 2.6 مليون بطاقة مطلع العام الجاري.
وللشهر الثالث على التوالي يضخ مصرف لبنان السيولة بالدولار في الأسواق عبر المصارف، وذلك بهدف مواجهة عمليات المضاربة على أسعار الصرف في السوق السوداء، ويهدف المصرف المركزي بإجراءاته إلى تجفيف حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من الأسواق حيث بلغ حجمها نحو 37 ألف مليار ليرة لبنانية هذا الشهر، بعد أن كانت قد ناهزت 50 ألف مليار.
وحتى الأول من شهر مارس الجاري، كانت محطات المحروقات والمخازن والمحال التجارية “السوبرماركت” إضافة إلى بعض الفواتير الرسمية كفاتورة الهاتف والخلوي، آخر ما يمكن للبناني دفعه بالبطاقات المصرفية، بعد أن توقف معظم التجار ومقدمو الخدمات والمطاعم والمؤسسات إضافة إلى المستشفيات والشركات عن قبولها كوسيلة للدفع، بسبب عدم تمكنهم من سحب هذه الأموال من المصارف، ما ينعكس على قدرتهم على شراء الخدمات والمنتجات من جديد، في ظل عدم تعاون المصارف مع القطاعات عبر رفع سقوف السحب.
وأتى إعلان أصحاب محطات المحروقات، مطلع مارس، التوقف عن قبول بطاقات “الفيزا كارد” كوسيلة للدفع من قبل المواطنين اللبنانيين، بمثابة الضربة القاضية لآخر ما تبقى من أشكال الدفع الإلكتروني بالبلاد.
قم لحق به فوراً أصحاب السوبر ماركات الذين أعلنوا بدورهم فرضهم على المواطنين دفع نصف الفاتورة نقداً والنصف الآخر عبر البطاقات، للتماشي مع سقوف السحب المفروضة عليها، وهدد قطاع “السوبرماركت” برفض التعامل نهائيا بالبطاقات إذا ما تابعت المصارف إجراءاتها ولم تحل الأزمة، وإن لم يقبل المصرف المركزي بإبدال قيمة مبيعاتها عبر البطاقات بدولارات نقدية عبر منصة “صيرفة” تمكنها من شراء بضائعها، لا سيما تلك المستوردة بالدولار.
غياب لدور المصارف
وفي هذا السياق يوضح الخبير الاقتصادي، الدكتور إيلي يشوعي، أن عدم قبول الشيكات المصرفية أو البطاقات الائتمانية كوسيلة للدفع مرده يعود إلى أن هذه الوسائل ما عادت تستند اليوم إلى أموال حقيقية موجودة ومتاحة، وإنما تستند إلى حسابات دفترية في المصارف، لذا بات الطلب على التعامل نقداً بشكل حصري في لبنان إن كان بالليرة أو بالدولار، خلافا للتوجه العالمي نحو تشجيع وتطوير الدفع الإلكتروني.
ويشرح يشوعي في حديث لموقع “الحرة” أن أساليب الدفع الإلكتروني أو عبر الشيكات تشجعه الدول “لما له من فائدة اقتصادية وأهمية في عدم إخراج الأموال من المصارف بشكل نقدي، وتعفي المودع أيضاً من الاحتفاظ بتلك الأموال بشكلها النقدي، وبالتالي يبقى هذا المال لدى المصرف الذي يستثمره في الاقتصاد أو عبر الإقراض ويحقق أرباحاً منه”.
غياب هذه الأساليب يعني بحسب يشوعي “غياباً للقطاع المصرفي برمته، وغياب لدوره في الاقتصاد، كوسيط في عمليات الدفع والتبادل المالي. وبالتالي عندما يتحول التعامل نقدا بواسطة أموال”.
“يعني أن القطاع المصرفي منهار وغير موجود في الاقتصاد ولا يقوم بدوره الطبيعي، وبالتالي لا يوجد استثمارات ولا اقتصاد ولا يوجد نمو، وصولا في النهاية إلى انعدام وجود الدولة”، وفقا للخبير الاقتصادي.
وقلل يشوعي من المخاطر الاقتصادية لحجم الأوراق المالية المستخدمة في الأسواق، “فحلها سهل جداً، حيث بإمكان مصرف لبنان أن يصدر ورقة جديدة بقيمة مليون ليرة، مقابل سحب ما يوازي قيمتها في السوق من فئات أخرى للعملة، وبذلك يكون قد أنهى هذه المشكلة”.
وكانت الساحة اللبنانية قد شهدت في أكثر من مناسبة طرح فكرة إصدار ورقة نقدية بقيمة مليون ليرة لتجنب حمل كميات كبيرة من الأوراق النقدية في الأسواق وبين أيدي الناس والاحتفاظ بها، إلا أن هذا الطرح لم يسلك طريقه نحو التنفيذ بعد، فيما يجري حديث آخر عن توجه لشطب أصفار من العملة اللبنانية تجنباً للأرقام الكبيرة التي قد تبلغها التعاملات في الأسواق نتيجة استمرار منحى الانهيار لقيمة الليرة اللبنانية.
أزمة سيولة
ويشهد لبنان بالتزامن مع ذلك أزمة سيولة كبيرة بالعملة اللبنانية، حيث بدأت المصارف بزيادة التقنين على السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية، الأمر الذي انعكس على آلاف الموظفين والمودعين الذين عجزوا عن الحصول على كامل رواتبهم والكوتا الشهرية من حساباتهم من المصارف، فيما يعجزون عن الدفع عبر بطاقاتهم.
وهو ما أنتج تقاذف مسؤوليات ما بين المصارف التي ترى أن مصرف لبنان مسؤول عن هذا الشح بالعملة اللبنانية نتيجة تدخله في السوق للجم ارتفاع الدولار القياسي مطلع العام عبر سحب الليرة من الأسواق لتحجيم الكتلة النقدية بما يتناسب مع مخزونه.
في حين يرد مصرف لبنان بأنه يمكن للمصارف التي في حاجة إلى سيولة نقدية بالليرة اللبنانية أن تحصل عليها مقابل بيع دولاراتها الورقية على سعر منصة “صيرفة”، وهو ما يسحب من المصارف ذريعة التقنين.
وقال المصرف في بيان إنه “باستطاعة المصارف تأمين حاجات المودعين لديها بالليرة اللبنانية من دون التقيد بالكوتا التي يمنحها لها مصرف لبنان، ولذا على المصارف ألا تخفض سقوف السحوبات لزبائنها شهرياً بالليرة نقداً طالما لديها الإمكانيات لتأمين السيولة عبر المنصة، كما ستقوم لجنة الرقابة على المصارف بالتأكد ميدانياً من وضع السيولة لدى المصارف”.
وقد زادت حدة الأزمة في اليومين الماضيين مع إعلان جمعية المصارف الإضراب التحذيري لمدة يومين، اعتراضاً على قرارات قضائية قضت بالحجز على موجودات للمصارف بناء على دعاوى قضائية مقدمة من قبل مودعين، الأمر الذي ينذر باحتدام مواجهة قضائية مصرفية سياسية، قد يدفع المواطن وحده ثمن نتائجها وآثارها الاقتصادية.
كل يوم بيوم
ويلفت الخبير الاقتصادي إلى أن سكان لبنان يعيشون “كل يوم بيومه”، ويستعملون فقط أموالهم النقدية وما يستحصلون عليه من ودائعها الدفترية، “أي ما يعطونها إياه في المصارف للاستهلاك اليومي فقط وتلبية الحاجات الأساسية لا أكثر”.
هذا الحال يظهر جلياً لدى الصرافين والعاملين بالتصريف في السوق السوداء، حيث يرصد الصراف علي عوض أشخاصاً يقصدونه 3 أو 4 مرات في اليوم الواحد من أجل تصريف حاجتهم من العملة اللبنانية، مقابل ما يستحصلون عليه من دولارات إما عبر ودائعهم أو أعمالهم أو عبر تحويلات من الخارج تصلهم كمساعدات اجتماعية.
“يفضل الناس تصريف مبالغ صغيرة، لتجنب المخاطرة مع القفزات الكبيرة في سعر صرف الدولار في اليوم الواحد، والخسائر التي قد تنتج عنه”، يشرح عوض، ويضيف “في حين أن مطلوبات الدفع آخذة بالارتفاع، فالـ 50 دولار، التي تساوي نحو مليون و٢٠٠ ألف ليرة لبنانية، قد تستهلك بتعبئة المحروقات للسيارة فقط، أو دفع فاتورة كهربائية أو شراء أي شيء مستورد بهذا السعر، وبالتالي يضطرون أيضا إلى حمل وتصريف مبالغ كبيرة لتكفيهم في تعاملاتهم ومصاريفهم اليومية، لكن سرعان ما يعودون للصرف من جديد”.
ويرى عوض، في حديثه مع موقع “الحرة”، أن السبب في ذلك يكمن في فقدان الثقة بالعملة اللبنانية، “وباتت استخدامها كقسيمة شرائية بقيمة ما تساويه بالدولار لا أكثر ويصرف منها وفق حاجتها فقط، وبالتالي هناك أشخاص فعلا يطلبون مني تصريف بحوالي ٣ أو ٤ مرات في اليوم الواحد وهناك آخرون بوتيرة أكبر، وهذا يشير إلى أن الحاجة تكبر وكذلك انعدام الثقة يزداد”.
يشير عوض إلى أن مشهد الأكياس والصناديق والحقائب لنقل الأموال بات عادياً جداً، “الجزادين ما عادت تتسع للأموال، خاصة عند تصريفها، مطلع الشهر أو مع الفروقات الكبيرة في سعر الصرف، وبإمكانك يومياً أن ترى صناديق الأموال التي تصل صباحاً إلى الصرافين أو شركات تحويل الأموال وكذلك المصارف، الأمر بات يشبه ما كنا نراه في فنزويلا أو زيمبابوي”.
سيناريو فنزويلا؟
وفي هذا الشأن يرى الصحافي المتخصص بالشأن الاقتصادي، خضر حسان، أن هناك بالفعل أوجه شبه ما بين الوضع اللبناني والفنزويلي، “خصوصاً فيما يتعلق بدور الفساد بالانهيار، فالأزمة في فنزويلا نتجت بشكل رئيسي عن تراجع أسعار النفط وانهيار الاقتصاد المعتمد بشكل شبه كامل على عائدات النفط التي يذهب نحو 41 بالمئة منها إلى الولايات المتحدة الأميركية التي فرضت عقوبات على فنزويلا، وتحديداً على شركة النفط الوطنية”.
وفي لبنان، يضيف حسان في حديثه لموقع “الحرة” أن “الطبقة السياسية اعتمدت على الاقتصاد الريعي بدل الاقتصاد الإنتاجي وعزّزت دور القطاع المصرفي على حساب باقي القطاعات، وجذبت رؤوس الأموال، ليس للاستثمار، وإنما لتجميدها في القطاع المصرفي مقابل فوائد مرتفعة”.
“كما أغرى مصرف لبنان المصارف التجارية بالفوائد المرتفعة لتوظيف الأموال لديه، وقام هو بتمويل السلطة السياسية، بشكل رئيسي عبر سلفات الخزينة، دون إعادة تلك الأموال. فتراكَم الدين الداخلي والخارجي ليصل إلى نحو 100 مليار دولار”، وفقا للصحفي.
وبالنتيجة، أدّت هذه السياسة، بحسب حسان، إلى استنزاف الموجودات بالدولار، “وهي في أغلبها أموال للمودعين، في مقابل تراجع الإيرادات، فعجزت المصارف عن تلبية طلبات مودعيها، بعد أن تسارعت طلبات سحب الأموال مع ارتفاع معدّل الخوف وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي. وتعاظمت أزمة الثقة وصولاً إلى انعدام الثقة الدولية، مع امتناع لبنان عن دفع مستحقات حاملي سندات اليوروبوند”.
إلا أن الانهيار الفنزويلي أفقد العملة 99.9 بالمئة من قيمتها، وأوصل معدّل التضخّم إلى نحو 130 ألف بالمئة.
ومع بدء التعافي، وصل التضخم، في نهاية عام 2021، إلى نحو 686 بالمئة. أما في لبنان، ففقدت العملة 90 بالمئة من قيمتها ووصل التضخم إلى نحو 150 بالمئة.
ويشرح حسان أن الفرق بين لبنان وفنزويلا يعود إلى عدم وجود عقوبات على لبنان، “وهذا يسهّل التعافي في حال كان هناك قرار دولي بالمساعدة، وهو ما يُحَضَّر له من خلال التفاوض مع صندوق النقد الدولي، فجزء أساسي من الأزمة سياسي، ويمكن تجاوزه وضخ الأموال في الاقتصاد”.
ويضيف “كما أن الكثير من المستثمرين اللبنانيين والعرب جاهزون للاستثمار في لبنان. وعدد كبير من المصانع ما زال يعمل. وجميع أنواع المواد الغذائية والأدوية والمحروقات ما زالت تصل، لكنها تُخَزَّن بفعل الفساد وغياب الرقابة”.
لكن استعادة العافية، لا يمكن أن تتم باعتماد السياسات السابقة، بحسب ما يشدد الصحافي المتخصص بالشأن الاقتصادي، “وتحديداً الاعتماد على القطاع المصرفي والفوائد المرتفعة. وهو أمر لن يحصل، حتى لو أرادته السلطة السياسية، لأن القطاع المصرفي فقد ثقة المودعين. ولذلك، أصبح لزاماً على السلطة السياسية تطوير القطاعات الإنتاجية”.
من جهته، يختم يشوعي بالإشارة إلى أنه لا حاجة إلى مقارنة النموذج اللبناني بأي نموذج آخر، “لقد بات لبنان نموذجا قائما بحد ذاته تخشاه الدول وتحذر من الوصول إليه وتضرب المثل به. نموذج منهار تعيس بائس وشعب منهوب مسلوب مغلوب على أمره ودولة تنهار بقطاعها العام والخاص والمصارف والمؤسسات، ولم يعد هناك أي شيء، لقد أصابنا جراد سياسي أكل الأخضر واليابس”.