شاحنة سلاح “المقاومة” التي انقلبت في الكحالة، لن يقدّر لها أن تقلب “باص” السكينة اللبنانية، بكلامٍ واضح، لن تكون الشاحنة “بوسطة” عين الرمانة، ومن يذهب بقوله هذا المذهب، سيقال له، إنك تركض خلف سراب اقتتال أهلي لا بيئة جاهزة له، ولا “أهليات” تحضّر له، وتسعى لخوض غماره.
تذكيريّاً، سنة 2023 ليست سنة 1975، والقوى ليست ذات القوى، والانقسام هو غير الانقسام، والطموح هو غير الطموح.
ولنفصِّل في ما ورد أعلاه من “ليسَات” لكي يكون متاحاً الاقتراب من وجهة سياسية فاصلة، تفرق بين لا جدوى الضجيج السياسي، وبين ضرورة وجدوى الجلوس إلى طاولة هدوء المسؤولية الوطنية، التي لمّا تَصِرْ حتى تاريخه، أثراً بعد عين.
بالجملة، في معرض “الليسات”، استعدت قوى الأحزاب للحرب سنة 1975، جَهَّزت العديد والعتاد، وكتبت شعارات المرحلة، وحدَّدت أفق أهدافها الأخيرة.
كان في ظنّ الحركة الوطنية اللبنانية، القدرة على فرض التغيير “الديمقراطي” بقدرة جمهورها، وبأداء سلاحها في الميدان، وبدعم من حركة المقاومة الفلسطينية، وبإسناد من أممية شيوعية، ومن قومية عربية…
وكان في ظنّ الجبهة اللبنانية، تحرير لبنان من الغرباء، بالاستناد إلى ذات عناوين “الحركة الوطنية”، مع اختلاف في المرجعيات الإيديولوجية، التي هي تحررية تقدمية اشتراكية… في مكان، و”انعزالية” ورجعية وإمبريالية في مكانٍ آخر.
سنة 1982، وضع الاحتلال الإسرائيلي حدّاً “للوطنية”، وأنعش “الإنعزالية”، واندلاع القتال ضد الاحتلال، عاد ليقلب طاولة التوازنات، فمدَّ المنكفأ بريح النهوض، وسلّط على الظافر الآني ريح الخمود… فكان ما كان حتى عشيّة “الكحالة” الأخيرة.
على جادة الهدوء، لم تخرج شاحنة السلاح التي تعود ملكيتها للمقاومة الإسلامية، عن أوتوستراد البيانات الوزارية، التي ما زالت تخدم معادلة الجيش والشعب والمقاومة. هذه معادلة تشبه على صعيد تفرعاتها، اتفاق القاهرة المبرم بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، سنة 1969. لقد أعطى الاتفاق المذكور للفصائل الفلسطينية حق القتال ضد إسرائيل من الحدود الجنوبية، أي أنه سمح لها ضمناً، بكل الإجراءات التي تجعل واقعة القتال ممكنة، وهذه، أي الواقعة، تتفرع إلى قواعد عسكرية، ومعسكرات تدريب، ومراكز إدارة، ومستودعات ذخيرة، وطرق إمداد، وصحف دعاية وإعلام. على الخطوط الفرعية هذه، سارت المقاومة الفلسطينية، فكان لها أن استحدثت فرعيات جديدة، سمحت بها التطورات السياسية المتلاحقة، التي عرقلت مسار الدولة والكيان حتى محطة اتفاق الطائف، الذي وضع “نظرياً” حدّاً أخيراً للحرب الأهلية اللبنانية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولأن المقاومة الإسلامية تشبه قرينتها الفلسطينية، لجهة الحقوق، وتتفوق عليها لجهة الانتماء الداخلي، بات “شرعيّاً” القول، إن التنقل على الأرض اللبنانية، هو حق من حقوق المقاومة الإسلامية، ولأن هذه الأخيرة، ليس مشهوداً عنها إقامة حفلات “الزفاف”، بات لزاماً على المشاهدين عدم استنكار استخدام المقاومة لحقها في نقل لوازم قتالها، ولوازم الفرعيات التي تخدم استدامة الاستعداد للقتال.
ما تقدم، يقع في باب التوطئة لمباشرة كلام هادئ، بعيداً من الأجواء التي رافقت انقلاب الشاحنة، وعلت من خلالها أصوات طائفية ومذهبية، فباتت السيادة فعلاً مسيحيّاً، مع غلبة مارونية، وباتت التبعيّة فعلاً إسلاميّاً، مع غلبة شيعية. واقع الأمر، لا هذا ولا ذاك، والحقيقي، أن الحادث جرى في لحظة داخلية مأزومة، وفي لحظة اصطفافات وتحدّيات، يخوضها كل طرف، وفي ذهنه خلفية وجوده، وضرورات استقامة هذا الوجود. بكلامٍ أوضح، هي لحظة، تجد الشيعية في سلاحها ضمانة سيطرة وتأكيد وجود، وتجد المارونية في سعيها لإلغاء هذا السلاح، ضمانة استعادة موقعها الكياني، وثباتها في كيانية النشوء الأولى.
الوعيان الآنفان خاطئان، لذلك، ومنعاً لمراكمة سياسات خاطئة على وعيٍ خاطئ، يكون المطلوب من الشيعية، وفي طليعتها حزب الله وحركة أمل، المزاوجة الآن، بين خطاب هادئ جداً، بعيداً من “الاتهامية”، وبين سلوك سياسي متقدم من شأنه فتح نافذة في جدار انتخاب الرئيس، الذي يقيم الفراغ في قصره ذي المسؤولية الوطنية الأولى.
على ذات الدرب، سيكون مطلوباً من السيادية، وفي طليعتها حزب القوات اللبنانية، التخفيف من نصّها المغالي في سياديته، وعدم التذاكي في تحويل مسألة انتخاب الرئيس، ذات الحساسية الوطنية العالية، إلى مجرّد مسألة إجرائية بسيطة. هذا النمط من التذاكي مكشوف، وهذه البراءة السياسية التبسيطية ممجوجة.
وبعيداً من الإسهاب، في لحظة التشنج الحالي، يجب الانتباه إلى أن معالجة ذيول ما جرى في الكحالة، مدخله السياسي، والكحالة ليست ثمرة من شجرة منبتّة، بل هي من شجرة أخطاء حبلى بالثمار.
ما المدخل؟ لا مفرّ من الحوار، وليكن النقاش في شروط هذا الحوار، وفي آلياته وفي مدته وفي مكانه. التمهيد لهذا الحوار كفيل ببلورة جدواه، أما الرفض الابتدائي لكل دعوة للتلاقي، بدعوى أن لا جدوى منها بالاستناد إلى تجربة سابقة، لا يعدو كونه دفعاً للبلد في دروب تتكاثر شاحناتها، وتعلو نبرة مشاحناتها، ومن كل ذلك، من يضمن على أي حال سيكون ما بقي من هذا “اللبنان”.