لم تكن مسألة بسيطة أن يصبح القاضي سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى في زمن عهد الرئيس ميشال عون الذي يطمح ويريد أن تكون معظم التعيينات من حصته لأنه يعمل كأنه باقٍ أبداً وأنه مستمر بعد انتهاء ولايته بمن يعتبره تلميذه وتربايتو صهره الوزير جبران باسيل. وبالتالي لا يمكن أن يقبل بتعيين أي كان إذا لم يكن هذا التعيين يخدمه. فكيف إذا كان الموقع أعلى سلطة قضائية في لبنان. اعتمد هذا الإسلوب في قيادة الجيش مع العماد جوزاف عون وكان يعتقد أنه سيكون تابعاً له ومن حصته وفي خدمته لا في خدمة الجمهورية ولذلك فعل المستحيل لتطيير قائد الجيش السابق جان قهوجي ولكنه فشل في أن يكون صهره العميد شامل روكز محله. وفعل الأمر نفسه مع حاكم البنك المركزي رياض سلامة عندما قبل التجديد له في العام 2017. هو نفسه قال إنه طرح هذا البند على جدول أعمال مجلس الوزراء من خارج البنود الواردة فيه بعدما طلبه وزير المال علي حسن خليل. لم يكن رئيس الجمهورية ليمرر هذا الأمر لو لم يكن مقتنعاً بأن سلامة في أعلى موقع مالي سيكون أيضا في خدمته وخدمة تمديد ولايته. ولكنه أيضاً وصل معه إلى صدام يتفاعل قضائياً من خلال تحريك الملفات ضده لإجباره على مجاراته في السياسة المالية ولإنقاذ بعض العهد من الإنهيار.
كان عون متحفظاً جداً وغير موافق على تسمية سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى. طالما اعتبر، مع المؤثرين حوله في قرار الإختيار، أن عبود «مش معنا» أو بتعبير آخر ليس كله من حصتنا وهناك غيرنا له حصة فيه. أحد أفراد خلية السبت، التي كانت تجتمع إلى عون قبل انتخابه وفرطت بعده وتفرقت وتحول بعضها إلى عدو وخصم شرس، كان له كلام مع عون حول موضوع عبود على قاعدة أنه «مش محسوب على حدا غيرك».
لم تكن المسألة تتعلق بعبود وحده بل بتركيبة مجلس القضاء الأعلى وبمدعي عام التمييز وغيرهما من المواقع الأساسية الأعلى وبالتشكيلات القضائية حصراً. قبل أن يقبل عون بعبود وبتوقيع مرسوم تعيينه طلب لقاءه. وزيره سليم جريصاتي كان الواسطة. وكان ذلك هو اللقاء الوحيد بين الرجلين. في هذا اللقاء لم يَعِد عبود عون إلا في أن يكون على قدر المسؤولية التي يلقيها عليه موقعه.
لم يكن عبود ضيفاً جديداً على قصر العدل. كان يكفي أن ينتقل إلى مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي دخلت عليه تعديلات كثيرة بعدما أخذ دوراً كبيراً في عهد الرئيس الأول فيليب خيرالله وجلسات محاكمة رئيس حزب القوات اللبنانية ورفاقه الدكتور سمير جعجع.
القاضي سهيل عبود
لم يكن المكتب وحده هو الذي تغير. أراد الرئيس الأول الجديد أن يكون التغيير في النهج والأداء والممارسة. لم يقبل أن يكون خاضعاً لإرادة السلطة السياسية كما فعل الرئيس خيرالله. لماذا؟ لأنه قرأ بتمعن في كتاب خيرالله «نحكم باسم الشعب اللبناني» الذي كتبه كشهادة حياة بعد تقاعده. قرأ عبود في هذا الكتاب مرافعة للقاضي خيرالله دفاعاً عن نفسه كي يبرِّر ما كان فعله في محاكمة رئيس القوات سمير جعجع، وكأنه كان يشعر بعقدة ذنب ويريد أن يخرج منها. لذلك كان عبود ينطلق من قاعدة تقوم على أنه لا يريد أن يذهب إلى التقاعد ويفعل مثل خيرالله ويكتب كتاباً يدافع فيه عن نفسه ويبرّر لماذا لم يدافع عن العدالة.
أول اشتباك مع العهد كان في التشكيلات القضائية. تجمدت العلاقة هناك. تمسك الرئيس بموقفه الرافض للتوقيع وتمسك عبود بالتشكيلات. أساس رفض عون ربما كان يتعلق بأسماء كثيرة ولكن الأهم كان اسم رئيسة النيابة العامة الإستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون. كان عون يريد أن يكون عبود مثل غادة. غبّ الطلب. بقيت غادة في موقعها وبقي عبود في موقعه.
قضية تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 فاجأت الجميع. عون وعبود والقضاء و»حزب الله». لم يكن عبود صاحب القرار في إحالة هذه القضية إلى المجلس العدلي ولكن كان له دور في تسمية المحقق العدلي الأول فادي صوان ثم الثاني طارق البيطار. بدأت الحرب على صوان عندما سمى متهمين وزراء ونواباً ورؤساء. اختار أن يخرج ودخل البيطار فتابع الإدعاءات. ثمة طريق واحد للتحقيق وللحقيقة. عندما أراد «حزب الله» أن يوصل الرسالة إلى البيطار اختار أن يمر الحاج وفيق صفا على مكتب الرئيس الأول. كان الحزب ربما يعتبر أن عبود يمكنه أن يقنع البيطار بتغيير المسار أو أن بإمكانه أن يزيحه أو يقبعه بلغة الحزب. ولكن عبود تمسك بالعدالة. لم يَهَب التهديد. كما دخل صفا خرج من دون نتيجة. صار الهجوم على البيطار مترادفاً مع الهجوم على عبود. كما يحصل مع قائد الجيش ومع حاكم مصرف لبنان وصلت الرسائل بشكل مباشر أكثر إلى عبود بأن بالإمكان تغييره. ولكنه لم يبال. صحيح أنه في موقعه لا يمكنه ان يتدخل في التحقيق ولا يمون على المحقق ولكنه يستطيع أن يحميه من موقعه طالما لم يخطئ وأن يحمي سير العدالة واستقلالية السلطة القضائية. ولأنه فعل قامت القيامة عليه. وكما البيطار رفض عبود الإنحناء. فسيف العدالة أقوى من التهجمات. لا فرق إن كان سيف البيطار أو سيف عبود.