حتّى اللحظة، لا أحد في جميع أصقاع الجمهوريّة يعلم ماذا يدور في خُلد حاكم مصرف لبنان، أو بالأحرى: لا أحد يعلم أي فئة ستكون ضحيّة خطوته التالية. الخروج من حقبة الدعم، وبيع دولارات الاحتياطات لتمويل الاستيراد، سيليه الاعتماد على المنصّة لتأمين هذه الدولارات. وإذا كان مصدر الطلب على دولارات المنصّة معروف، وتحديداً من جهة مستوردي السلع الأساسيّة والمحروقات، فمصدر العرض غير واضح حتّى اللحظة. بمعنى آخر، لم يتضح حتّى اللحظة المصدر الذي ستعتمد عليه المنصّة للحصول على هذه الدولارات وشرائها، قبل بيعها للمستوردين.
سيناريوهات التصحيح النقدي
على طاولة رياض سلامة عدة سيناريوهات، وفي دهاليز المصرف المركزي تجري اليوم المداولات والمفاوضات لتحديد مصدر هذه الدولارات، أو بالأحرى الفئة التي ستدفع ثمن المرحلة. بين مصادرة نسبة من الدولارات الواردة إلى شركات تحويل الأموال، أو الاعتماد على السوق السوداء وحدها لشراء الدولار النقدي، ثمّة عدّة أدوات لامتصاص العملة الصعبة لتمويل المنصّة، فيما تقودنا كل أداة إلى تداعيات معيّنة على فئات مختلفة. ومن وراء الكواليس، هناك من بدأ بالضغط بهذا الاتجاه أو ذات.
من حيث المبدأ، ما يتم الحديث عنه هنا ليس تفصيلاً بسيطاً على هامش المشهد المالي، بل يمثّل التطوّر الأكثر حساسيّة في سياق الأزمة النقديّة، والذي يُعنى بكيفيّة الخروج من حقبة تعدد أسعار الصرف والدعم، والانتقال التدريجي إلى مرحلة سعر الصرف العائم، وهو ما يُعرف في العادة بمسار “التصحيح النقدي” الذي يلي فوضى أسعار الصرف المتنوّعة. المشكلة الكبرى اليوم، هي أن هذه المرحلة الحسّاسة بالتحديد تُدار بشكل غامض وغير مفهوم، وبعيداً عن أعين الرأي العام، لا بل وبمعزل عن أي مسار أوسع للخروج من حالة الانهيار الشامل.
السيناريو الأول: مصادرة دولارات شركات تحويل الأموال
السيناريو الأوّل الذي يتم دراسته في مصرف لبنان، يقوم على سحب جزء من الدولارات الطازجة الواردة إلى السوق من خلال شركات تحويل الأموال. هذه التحويلات تبلغ قيمتها حالياً ما يقارب 1.44 مليار دولار سنوياً، فيما يدرس مصرف لبنان حالياً إمكانية إصدار تعميم يقضي بمصادرة نصف قيمة كل تحويل وارد، مقابل سداد قيمة هذه الدولارات المصادرة للمستفيدين منها بالليرة، ووفقاً لسعر صرف المنصّة. وإذا لم يتأثّر حجم التحويلات الواردة بهذا التعميم، فمن الممكن أن يتمكن مصرف لبنان من تحصيل دولارات طازجة توازي قيمتها 720 مليون دولار نتيجة هذا الإجراء.
هدف هذا القرار سيكون ببساطة استعمال هذه الدولارات خلال المرحلة الانتقاليّة، لتأمين جزء من السيولة التي ستبيعها المنصّة للمستوردين، على أن تؤمّن المنصّة الجزء الآخر من هذه السيولة من مصرف لبنان بكميات محدودة. مع العلم أن المصرف المركزي يراهن على انخفاض سعر صرف السوداء السوداء تدريجياً، خلال هذه المرحلة الانتقاليّة بعد رفع الدعم، نتيجة انخفاض قدرة المقيمين على الاستهلاك والاستيراد. وهو ما سيؤدّي إلى اقتراب سعر السوق السوداء من سعر المنصّة نفسها. عندها، سيكون بإمكان مصرف لبنان الانسحاب تدريجياً من مهمة تأمين الدولارات للمنصّة، بعد أن تصبح قادرة على شراء دولارات السوق السوداء التي انخفض ثمنها، والتحوّل إلى وسيط بين السوق والمستوردين.
حتّى اللحظة يبدو سلامة متردداً في اللجوء إلى هذا النوع من السيناريوهات، كون تجربة مصادرة دولارات شركات تحويل الأموال أدّت خلال العام الماضي إلى انخفاض حجم هذه التحويلات الواردة بشكل كبير. وهو ما دفعه إلى التراجع عن هذا القرار في ذلك الوقت. علماً أن شركات تحويل الأموال حرّكت خلال الأيام الماضية كل أدوات الضغط المتاحة لتحذير مصرف لبنان من خطوة كهذه. فالشركات تخشى انخفاض قيمة أرباحها في حال أدى القرار إلى تقلّص قيمة الدولارات الواردة عبرها.
على أي حال، إذا تم السير بهذه الخطوة خلال الأيام المقبلة، فالفئة التي ستدفع ثمن القرار ستكون الأسر التي تستفيد من تحويلات خارجيّة من أبنائها في المهجر، وبالأخص تلك التي تتلقى هذه التحويلات بمبالغ صغيرة، ولا تملك بدائل عن شركات تحويل الأموال.
السيناريو الثاني: سحب دولارات السوق السوداء مباشرةً
السيناريو الثاني المطروح أمام سلامة يتلخّص في العمل على تمويل المنصّة من دولارات السوق السوداء. وهنا، سيكون بإمكان مصرف لبنان تحويل المنصّة سريعاً إلى أداة تداول بالدولار: بيعاً للمستوردين وشراءً من السوق السوداء، وحسب سعر السوق، من دون استنزاف أي دولارات من قبله بأي شكل، ومن دون المرور بمرحلة انتقاليّة. وهذا السيناريو المرجّح اليوم، يقتضي أولاً رفع سعر الشراء الذي تعتمده المنصّة للتمكّن من استقطاب دولارات السوق السوداء. مع الإشارة إلى أن التعميم 159 الذي كفّ يد المصارف عن السوق السوداء، يشير إلى أن مصرف لبنان ينوي فعلاً الدخول خلال الأسابيع القليلة المقبلة إلى هذه السوق من خلال المنصّة نفسها.
محاذير هذا الخيار ستكون بشكل أساسي الصدمة التي سيتعرّض لها سوق القطع، بعد إحالة كمية كبيرة من الطلب على الدولار إلى السوق السوداء بشكل مفاجىء، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى ارتفاع سريع في سعر صرف الدولار. وفي هذه الحالة، لن تعاني السوق المحليّة من ارتفاع أسعار المواد المحروقات بفعل رفع الدعم فقط، بل أيضاً بفعل ارتفاع سعر الصرف الذي سيلي رفع الدعم.
في هذا السيناريو، سيدفع ثمن الارتطام السريع جميع المقيمين نتيجة ارتفاع سعر الصرف. أما رهان حاكم مصرف لبنان الأساسي إذا اعتمد هذا السيناريو، فسيكون على إمكانيّة حصول حلحلة ما تؤدّي إلى تشكيل الحكومة قريباً، ما قد يساهم في ضبط الارتفاع السريع في سعر صرف السوق السوداء لاحقاً.
ترددات التعميم 159
بالتوازي مع كل هذه السيناريوهات المختلفة، ما زالت تتداعى آثار التعميم 159، الذي حظر على المصارف التدخل لشراء الدولار من السوق السوداء، فيما فتح لها باب شراء الدولارات الطازجة من المودعين حسب سعر صرف المنصّة. الضجّة التي أثارها التعميم، من جهة إمكانية استعماله لإجبار المودع على بيع الدولارات الطازجة وسحب قيمتها بالليرة، دفعت مصرف لبنان لإصدار توضيح يؤكّد فيه ربط عمليّة بيع الدولارات الطازجة برغبة العميل حصراً.
مصادر مصرفيّة مواكبة لهذا الملف أكّدت أن توضيح مصرف لبنان جاء بعد تخوّف عدة مصارف كبيرة من آثار حالة الخوف التي سادت بين المودعين، والتي أدت إلى تهافت بعضهم إلى سحب دولاراتهم الطازجة من الحسابات الجديدة بوتيرة سريعة، أو قد تؤدّي لاحقاً إلى توقف بعضهم عن تلقي التحويلات عبر هذه الحسابات. مع العلم أن العمولات التي تتلقاها المصارف من هذه الحسابات تشكّل اليوم مصدراً من مصادر حصولها على الدولارات الطازجة من الخارج.
لكنّ التوضيح لم يعالج أبرز المخاوف التي نتجت عن هذا التعميم، من جهة إمكانية قيام المصارف باختلاق ذرائع تعرقل عمليات السحب النقدي بالدولار الأميركي من الحسابات الجديدة، كعدم تزويد الفروع بكمية كافية من الدولارات الورقيّة. أو حتى من إمكانية فرض عمولات مرتفعة على عمليات السحب النقديّة في الفروع. وهذا النوع من الإجراءات يمكن استعماله لاحقاً لإجبار العميل على الرضوخ لمندرجات التعميم 159 وبيع دولاراته النقديّة طوعاً، خصوصاً أن المصارف باتت تملك مصلحة الآن في شراء هذه الدولارات واستعمالها لإعادة الرسملة أو سداد الالتزامات كما نص التعميم. مع الإشارة إلى أن الكثير من المصارف تقوم أساساً اليوم بهذا النوع من الممارسات، من خلال إدعاء عدم توفّر الدولار الورقي في الفروع المصرفيّة.
في كل الحالات، من المفترض أن تبيّن الأيام التالية مصير دولارات المغتربين الواردة عبر شركات تحويل الأموال، ومصير موازين العرض والطلب في السوق السوداء. وهذه التطوّرات، بالإضافة إلى مصير الدولارات الطازجة الواردة إلى النظام المصرفي، ستحدد من الناحية العمليّة شكل النظام المالي وسوق القطع خلال الأشهر المقبلة. أما الأكيد، فهو أن رفع الدعم لن يعني بالضرورة انتهاء الإشكاليات المرتبطة بتأمين المواد الأساسيّة وتوفّر الدولار لاستيرادها، وتحديداً إذا لم تنجح عمليات المنصّة كما يخطط لها رياض سلامة.