في كل عام، ومع اقتراب عيد الأضحى، تتكرّر الظاهرة ذاتها في الأسواق اللبنانية: تفاوت صارخ في أسعار الأضاحي، وغياب تام لأي رقابة حقيقية. كل تاجر يضع تسعيرته على هواه، متذرّعا بعذر أقبح من ذنب، تارة بارتفاع تكلفة الاستيراد من الخارج، ومرةً بزيادة كلفة النقل والشحن، وأحياناً بسعر صرف الدولار أو اليورو، فيما تبقى جيوب الناس وحدها في مهبّ كل هذه الأعذار التي تتكرّر موسماً بعد موسم.على الرغم من الانهيار المالي، بما في ذلك انسداد الأفق الاقتصادي، وتحوّل العيد نفسه إلى عبء نفسي واجتماعي، لا يزال كثير من المسلمين في لبنان يحاولون، بكل ما بقي لهم من كرامة وإيمان، أن يتمسّكوا بسُنّة الأضحية. يبحثون عن خروف لا ينطحهم سعره، أو عجل لا يركلهم من قوائمهم الهزيلة، فقط ليقدّموه قرباناً يُرضون به الله، ويُفرحون به قلوب أبنائهم، ويواسون به من لا يجد لقمة لحم في عامه كلّه.
لا قانون ولا من يحزنون!
ويا للمفارقة، في بلدٍ تتآكل فيه الدولة من أطرافها، يغيب القانون وتغيب المحاسبة، ويحلّ مكانهما «سوق مفتوح» للجشع والانتهازية. حيث تُصبح الأضاحي تجارة موسمية بلا سقف، وتتحوّل شعيرة القرب من الله إلى ميدان للمتاجرة بالعبادات. في هذا المشهد القاتم، لا يُذبح العجل فقط، بل تُذبح معه العدالة الانسانية، وتُسفك دماء المعنى الحقيقي للعيد، وتُهان كرامة الفقير مرّتين: مرة من ضيق الحال، ومرة من تجّار لا يعرفون إلّا لغة الأرباح.
تنظيم الأسعار في مهب «حيتان السوق» والاحتكار!
في ضوء ما تقدّم، يقول الشيخ عمر فاروق أمامة، دكتور في الشريعة والدراسات الإسلامية وناشط اجتماعي ومسؤول عن عدد من النشاطات الخيرية لـ «اللواء»، إن «الذي يتحكّم في تسعير الأضاحي هم التجار، فالأسعار في السوق اللبنانية خاضعة لهم، وتقع تحت سلطتهم واحتكارهم. وعندنا في لبنان، التجار هم من يستوردون الماشية، والدولة عموماً غائبة عن هذا الملف».
الأثمان «خيالية» وغير منطقية
ويضيف: «أسعار الماشية بأنواعها خاضعة لسوق العرض والطلب، لذلك نلاحظ أن أسعار اللحوم بدأت بالتصاعد تدريجياً منذ دخول شهر رمضان المبارك، وستستمر إلى ما بعد عيد الأضحى. انطلاقا مما تقدّم، نجد اليوم أن سعر كيلو اللحم الأوروبي يتراوح بين 14 و15 دولاراً، في حين كان يتأرجح قبل شهر رمضان ويتراوح بين 10 الى 11 دولاراً للكيلو الواحد».ويشير إلى أن «زيادة الأسعار من جهة، وارتفاع سعر صرف اليورو، إضافةً إلى صعوبة الوضع الاقتصادي في لبنان وتدنّي دخل الفرد، كل ذلك أدّى إلى تراجع كبير في الإقبال على تطبيق هذه السُّنة والشعيرة العظيمة في مختلف البلدات اللبنانية، مقارنةً بالوضع الاقتصادي قبل تضخم سعر الدولار وانهيار قيمة الليرة اللبنانية».
الأسعار حسب النوعية!
ويتابع: «أما بخصوص أنواع اللحوم المطلوبة في لبنان، فهي تتراوح بين العجل البرازيلي والكولومبي والأوروبي، ولكل نوع أقسام متعددة تحته أيضاً، تلعب دوراً في تحديد سعر كل قسم. في حين أن أغلى وأجود هذه الأنواع هو العجل الأوروبي».
التعاضد الإنساني بخير!
ويوضح: «أما في ما يتعلق بالجمعيات الخيرية، فهي تحاول تغطية عدد معيّن من الفقراء والمساكين بحسب نطاق عملها الجغرافي، لكن عدد هذه الجمعيات يُعتبر قليلاً مقارنةً بكثرة المحتاجين من الأسر المتعففة، خاصة بعد تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية. وحتى الآن، يُعدّ الاقبال في هذا العام ضئيلاً. لذلك، يبقى عدد كبير من هذه الأسر محروماً من فرحة دخول كيلو أو أكثر من اللحم الطازج إلى بيته في فترة عيد الأضحى المبارك».ويبيّن: «أن مراقبة الجهات الدينية لهذا القطاع غير موجودة، لان هذه المسؤولية تقع على عاتق الدولة أولاً وأخيراً، بينما يقتصر دور المؤسسات الشرعية على تذكير المسلمين بأداء هذه الشعيرة في عيد الأضحى المبارك، ومساعدتهم في ذبح الأضاحي وتوزيعها على مستحقيها».وينوّه عمر فاروق أمامة في ختام حديثه الى ان «أسعار العجول اليوم بحسب بلد المنشأ، إذ يتراوح سعر العجل الأوروبي ما بين 4.5 و6 دولارات للكيلوغرام الواحد، فيما يتراوح سعر العجول البرازيلية بين 3.9 و4.5 دولارات للكيلوغرام».
التباين في الأسعار يُربك المُضَحّين!
في بلدٍ تتخبّط فيه الأسواق بلا حسيب أو رقيب، لا عجب أن تتفاوت أسعار الأضاحي من منطقة إلى أخرى كأننا أمام بورصة مفتوحة على جشعٍ مشروع. في غياب رقابة حقيقية من الدولة وتحديدا وزارة الزراعة، تفرض آلية العرض والطلب كلمتها العليا، بينما يتدخّل بعض الفاعلين الخيريين لتعديل الكفّة قليلاً، ولو عبر مبادرات محدودة لا تغطّي سوى شريحة ضيقة من الفقراء.
جولة على أسواق اللحوم
في سياق متصل، قامت «اللواء» بجولة تفقّدية على عدد من المزارع والملاحم في مناطق لبنانية مختلفة لرصد أسعار الأضاحي قبيل عيد الأضحى بأيام، فظهر الاختلاف بوضوح. وفي هذا الإطار، يقول السيد أحمد، صاحب ملحمة في صيدا، إن «سعر خروف العواس البلدي بوزن 50 إلى 52 كيلوغراما يصل الى 400 دولار، بينما يبلغ سعر العجل الأوروبي الكامل بوزن 450 كيلوغراما نحو 1820 دولارا، أما سُبع العجل الأوروبي فيُباع بسعر 280 دولارا».
في منطقة الشويفات، يعرض السيد علي أسعار الأضاحي بسعر الكلفة، كما يقول، حيث يحدّد سعر الخروف الذكر بـ 330 دولارا، والخروف الأنثى بـ 270 دولارا، أما سُبع العجل فيُباع بـ 240 دولارا.أما في عرمون، فيكشف فؤاد، صاحب مزرعة لبيع المواشي، لـ «اللواء» أن «سعر الخروف البلدي يبلغ 410 دولارات، بينما يصل سُبع العجل إلى 295 دولارا، في حين يسجّل سعر العجل الأوروبي الكامل 1980 دولارا».
وبالعودة إلى أسعار العام الماضي، كان سعر الخروف العواس البلدي من الحجم المتوسط يتراوح بين 250 و270 دولارا، وسعر العجل الأوروبي الكامل حوالي 1450 إلى 1600 دولار، في حين لم يكن سُبع العجل يتجاوز 200 إلى 210 دولارات كحدٍّ أقصى في معظم المناطق.بالمقارنة، ارتفعت الأسعار الحالية بما يقارب 20 إلى 30%، ما يعني أن الأضاحي هذا العام تُباع بقيمة تقترب من سعر الكلفة، لكنّ الفرد الذي يرغب بشراء أضحية واحدة خارج إطار الجمعيات، سيدفع على الأرجح ما بين 100 و130 دولارا إضافية، بحسب ما أكده أحد أصحاب الملاحم في منطقة البقاع الأوسط.
تتجلّى المفارقة في أن الأضحية، التي تمثّل جوهر العطاء في العيد، باتت تُقاس اليوم بالربح والخسارة. فهي ليست مجرّد شعيرة، بل صراع بين فكر التضامن ومنطق السوق، بين من يذبح طاعةً، ومن يُسعّر طمعاً.في ظلّ هذا الواقع المأزوم، تحاول بعض الجمعيات الخيرية ان تلعب دور الوسيط الإنساني، عبر تنظيم حملات للأضاحي تجمع التبرعات من أهل الخير داخل لبنان وخارجه، وتشتري الأضاحي بالجملة بأسعار تفضيلية لتوزيعها على الأسر المتعففة.
لكنّ عدد هذه الجمعيات يبقى محدودا مقارنةً بحجم الحاجة المتزايدة، لا سيما بعد الانهيار المالي الذي أفقر شرائح واسعة من المجتمع اللبناني.في الخلاصة، تراجع القدرة الشرائية وانعدام الرقابة الرسمية، يجعلان الأضحية بالنسبة لكثير من العائلات حلماً مؤجّلاً وفرحةً غائبة عن موائد العيد. فالعيد الذي كان يوماً موعداً للتكافل والتراحم، بات يمرّ على البعض مروراً صامتاً، بلا خروف يُذبح، ولا لحم يُطهى، ولا فرحة تُعاش.