52٪ من حالات زواج القاصرات و69٪ من ولادات النازحين غير مسجلة للعام 2021 وذلك وفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وقد ساهم الإنجاب بوتيرة مرتفعة في أوساط اللاجئين، مصحوباً بارتفاع نسب الفقر حتى 91%، إلى زيادة حالات الزواج المبكر.
الزيجات المبكرة، أو زواج الأطفال القصّر، ظاهرة كانت ولا تزال سائدة في المجتمعات النامية، وهي أكثر شيوعاً بين النازحين السوريين، وتطال المجتمعات المناطقية النائية في لبنان. في أكثر الأحيان، تكون الزوجة هي القاصر وذلك لأسباب مختلفة ومتعدّدة، منها الفقر والأزمة الإقتصادية وتفشي جائحة كورونا، إضافةً إلى العادات والتقاليد، ورفض فكرة عمل المرأة، ما يحول دون استقلاليتها المادية والمعنوية، وبالتالي ما يحرمها القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية.
تحديات النزوح
طفلة في عمر الثانية عشرة زوجةٌ ولديها أطفال! يكاد المشهد يكون سوريالياً رغم تكراره مئات المرّات. هو فعلياً مشهد لسجينة بريئة تفتقد لكل مقدّرات تقرير المصير. أمّا تبعات هذا الواقع، فتكاد تكون مدمّرة: تفاقم مشكلات الفتيات الصحية الجسدية والنفسية وزيادة الولادات وتعرّض حديثي الولادة لمشاكل صحية، إضافةً لتفشي العنف الأسري.
تفيد الدراسات بأنّ الفقر يمثل سبباً أساسياً لإتمام هكذا زيجات بما أنّ دافع أهل الفتاة هو حصولهم على مهر يقيهم من العوز. وقد يتخذ هذا المهر شكل “معاش شهري” يستخدمونه لتلبية حاجات الأسرة. يترافق الفقر مع عوامل أخرى تساهم في لجوء النازحين إلى إخضاع بناتهم لزواج المبكر، منها عدم توفر المأوى، حيث أنه في حالات النزوح القسري، تحتجز النساء، على اختلاف أعمارها، مع أعداد كبيرة من الرجال، ما يجعلهنّ عرضة، بشكل أكبر، لخطر التحرّش الجنسي والعنف.
ظروف العيش الصعبة التي تخضع لها النساء ترفع سقف التحديات التي يواجهنها، وتحدّ من فرص انعتاقهن من سطوة السلطة الذكورية، لا سيّما القاصرات منهن، بما أنّ الأنماط الإجتماعية المسيطرة في مخيمات اللجوء هي نسخة طبق الأصل عن مجتمعات اللاجئين السوريين التي تنظمها عادات ثقافية ومعتقدات دينية محدّدة. وإلى هذه المعطيات، أضاف اللجوء صعوبات كسب العيش التي تقلّص قدرة النساء على التكيّف والصمود. كما للفجوات في الأطر القانونية والتنظيمية تأثير على شؤون النساء، إذ تضعف قدرتهن على تحصيل حقوقهن، بل وتعزّز انتهاك حقوقهن.
تظهر الإستطلاعات الميدانية في أوساط اللاجئات، من مختلف الفئات العمرية، حاجتهن الماسة للتوعية والتثقيف والتعليم والحماية وتأمين سبل العيش الكريم، وللإضاءة بشكل أساسي على واقع زواج الأطفال. فالحدّ من هذه الظاهرة يمرّ بتدريب النساء والفتيات على إدراك حقوقهن، ما يفسح أمامهن المجال لتفعيل قدراتهن تمهيداً لاتخاذ قراراتهن، وبالتالي مناهضة إخضاعهن للزواج المبكر.
زيادة معدلات هذا النوع من الزيجات
أدّى النزوح القسري إلى زيادة معدّل زيجات القاصرات، أي الفتيات ما دون الثامنة عشر من العمر، بثلاثة أضعاف حسبما تفيد الإحصاءات، والدافع الرئيسي هو “الخوف على شرف البنات من أي اعتداء جنسي” بما أنّ النازحين يعيشون في أماكن مفتوحة، وبعض المساحات يتمّ استخدامها بالمشاركة ما بين الرجال والنساء والأولاد والفتيات، كالمراحيض مثلاً. وتشير الدراسات إلى أنّ معدل عمر المتزوجات من القاصرات يتراوح ما بين 13 و15 عاماً، وحتى ما دون هذه الفئة العمرية، في حين أنّ الزوج يكون أكبر بمعدل 10 إلى 15 سنة إن لم يكن أكثر من ذلك. ويؤكد مصدر في المحكمة الشرعية السنيّة في البقاع أنّ زواج الفتيات التي تتراوح أعمارهن ما بين الـ 12 والـ 15 سنة غالباً ما يجعل منهن الزوجة الثانية أو الثالثة. ومعظم هذه الزيجات هي أصلاً غير موثّقة على النحو القانوني، فيما نسبة تثبيت هكذا قران في المحاكم المختصة لا تزيد على 27%، ما يترك المرأة دون حماية قانونية على النحو الشرعي، وفق اعتبارات المحاكم السنيّة والجعفرية.
أمّا في حالات الطلاق، فتكبر المصيبة بما أنّ أطفال المطلقات القاصرات يبقون في رعاية الأب، فيما تحرم منهم أمهم. إضافةً إلى أنّ العامل الإقتصادي الذي شكّل في الأساس سبباً رئيسياً لعقد القران، أي إستفادة أهل الفتاة من مهرها، يسقط تحديداً إذا ما كان هذا المهر يسدّد بأقساط شهرية. ففي جميع الأحوال، تكون الفتاة هي الحلقة الأضعف في أية مقايضة، بما أنّ تلك المقايضة ستتم حتماً على حسابها.
شهادة من أرض الواقع
“تزوّجت عندما كان عمري 14 عاماً. كان زواجاً تقليدياً بحكم العادات المتّبعة في سوريا”. بهذه الكلمات تبدأ ربى قصتها، وتتابع بحسرة: “تمّ إيقافي عن الذهاب إلى المدرسة بهدف تزويجي. لم أكن أعرفه، وكان يكبرني بأكثر من 15 عاماً. كنت أتعرّض للتعنيف وأهرب لأحتمي بأهلي، لكنهم كانوا يعيدونني إلى بيت زوجي. بعد سبعة أشهر، حملت وأنجبت فتاة ومن ثم تًطلّقْت وعُدّت مُدمّرة إلى بيت أهلي بعدما أخذ مني ابنتي وحرمني، حتى اللحظة، من رؤيتها أو حتى من الحديث معها عبر الهاتف”. حدث كل هذا منذ ست سنوات، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحدّ إذ تضيف ربى: “واليوم، التاريخ يعيد نفسه. بسبب العادات والتقاليد، يتمّ تزويج شقيقتي وهي في عمر الـ 17 عاماً”.
زيجات القُصّر زادت بسبب الأعباء الإقتصادية
تشير مستشارة وزير الشؤون الاجتماعية ونائب المشرف العام لخطة لبنان للاستجابة للأزمة السورية السيدة علا بطرس، إلى أنّ حالات الزواج المبكر ازدادت بشكل كبير مع أزمة النزوح. وتضيف بطرس أنه “وفق الرصد والتقييم، تبيّن لنا أنّ عوامل عدّة تدفع بالقاصرات قسريّاً إلى هذا الخيار، ومنها رفع الأعباء الإقتصادية عن الأهل، خصوصاً عندما يعانون من صعوبة في دفع الإيجارات. وهناك حالات معيّنة تتمحور حول استغلال من قبل المالكين. كما ساهم ارتفاع نسبة الإنجاب بشكل كبير في الدول المضيفة إلى الزواج المبكر، وهذا يعود إلى ارتفاع نسب الفقر إلى حدّ 91٪، وكذلك التسرّب المدرسي”.
وفي المعلومات الواردة في حديث السيدة بطرس أنّ الضغوط الإقتصادية وانعدام الوعي المجتمعي والمدني يدفعون إلى هكذا نتائج. فـ 52٪ من حالات الزواج غير مسجّلة، وكذلك 69٪من ولادات النازحين، علماً أنّ الدولة السورية أصدرت، في العام 2018، قانوناً يمنع الزواج دون الـ 18 عاماً، ما يعني أنّ هذا النوع من الزواج بات غير شرعي في سوريا. في المقابل، لا قانون في لبنان يجرّم الزواج المبكر، إضافةً إلى أنّ رجال الدين إمّا يشجعون هكذا زيجات، أو أنهم لا يحرصون على تسجيلها بالشكل القانوني.
وتختم بطرس بالإشارة إلى أنّه بموجب خطة لبنان للإستجابة للأزمة السورية القائمة على الشراكة مع وكالات الأمم المتحدة المعنية، ومع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يتمّ رصد حالات الزواج المبكر وتحويلها الى المنظمات المعنية المحلية أو الدولية بموجب ما يُعرف بـ “آلية الإحالة بين الوكالات” inter-agency referral mechanism، كما تؤمّن التوعية والدعم النفسي والإجتماعي في هكذا حالات.
زواج القصّر طال المجتمع اللبناني
فاقمت المشاكل الإقتصادية وجائحة كورونا عدوى الزواج المبكر في المجتمعات اللبنانية المضيفة. لقد باتت هذه المجتمعات تحذو حذو اللاجئين السوريين بحكم التأثيرالمتبادل المتمثل تحديداً بأنّ النازحن السوريين “يُدخلون الأموال من خلال الزواج المبكّر” على مرأى من اللبنانيين.
وفي هذا السياق، تشير تالار من جمعية“Asmae- Soeur Emanuelle” إلى خطورة عدم تقدير النتائج السلبية الناتجة من جرّاء الزواج المبكر على العائلة والأم والأطفال، موضحةً بأنّ هذا الزواج لا يقتصر على الفتيات القاصرات بل يطال الفتيان القصّر أيضاً، على اعتبار أنّ الفتى، في التداول الشعبي، هو “رجّال البيت”. وتضيف تالار بأنّ “المشكلة ليست إقتصادية بحتة، بحيث أنّ العادات والتقاليد تلعب دوراً، كما أنّ التعدّد الطائفي أيضاً له تأثير في هذا النوع من الزيجات”.
لقد طال زواج القصّر المجتمع اللبناني بنسبة بلغت، في سنة 2019، 12%. وهذا الرقم تمّ تحديده بناءً على نتائج أظهرتها استمارة أعدّتها منظمتا “ابعاد” و الـ “يونيسف”. توزّعت نسب من طالهم الزواج المبكرعلى الشكل التالي: 4% فتيان و8% فتيات. وقد أكدت النتائج أنّ جائحة كورونا ساهمت بزيادة معدّل هذا الزواج بفعل تعميقها للأزمة الإقتصادية. فخسارة الأشغال ضاعفت من الضغوط النفسية ومن عمالة الأطفال كما من الزواج المبكر.
إنّ الوضع الإقتصادي المتردّي فرض على القصّر من الفتيان الخروج للعمل، بما أنّ الفتاة، أي الزوجة، يجب أن تبقى في منزلها للاعتناء بالبيت والأطفال. أمّا البقاء في البيت بسبب كورونا والجهل والبطالة، فأحدثوا “زيادة في النسل”.
أهمية التوعية الإجتماعية
تعمل جمعية“Asmae- Soeur Emanuelle” ، كما العديد من المنظمات المعنيّة بشؤون المرأة والطفل، على توعية النازحين السوريين، من خلال جلسات تدريب تستهدف الأهل والأولاد، وبرامج الدعم النفسي-الإجتماعي. وجميع هذه النشاطات تركّز على عرض حالات تضرّرت من جرّاء الزواج المبكر وتظهير حجم الأضرار المترتبة عن هكذا زواج.
ومن هذه الأمثلة المتداولة، مثال فتاة تعرّضت للإغتصاب ليتمّ إجبارها على الزواج من مُغْتَصِبها، وحالة فتاة أخرى في الثانية عشرة من عمرها، تمّ تزويجها فحملت وأجهضت ثلاث مرّات، لتعود فتحمل ويصبح لديها خمسة أطفال، وهي اليوم في الحادية والعشرين، وزوجها متزوّج من امرأة أخرى وهي، بحكم التمييز الجندري والعادات السائدة، لا سبيل أمامها إلا الإذعان لواقعها.
بدأت بوادر نتائج هذه الحملات التوعوية تظهر، على حدّ قول القيّمين على جمعية “Asmae- Soeur Emanuelle” ، إذ أخذ عدد من ضحايا الزواج المبكر بالتفاعل والتجاوب من خلال تغيير سلوكيات معيّنة، منها، على سبيل المثال، إنضمام أعداد أكبر من الأشخاص الراغبين بالحدّ من الأضرار اللاحقة بأطفالهم القُصّر بحكم التقاليد والممارسات السائدة. فيما القصّر المشاركون يسألون عن كيفية رفض الزواج المبكر، حسبما تفيد معطيات الجمعيات العاملة على متابعة الأطفال السوريين تحديداً حتى مرحلة متقدّمة، أي إلى مرحلة الشباب، من خلال حثّهم على إكمال تعليمهم، على اعتبار أنّ هذا الأمر يُسْهم في انتشال 90% من هؤلاء الأطفال من براثن البطالة والزواج المبكر.
ويبقى العائق الأساسي أمام حملات مواجهة الزواج المبكر وتداعياته غياب القوانين التي تحول، بشكل حاسم، دون الزواج المبكر. فبرأي المعنيين بمكافحة ظاهرة الزواج المبكر، “القانون هو مشكلة المشاكل”.
ملاحظة: لطلب المساعدة، يمكن الاتصال بـ:
وزارة الشؤون الإجتماعية
د. علا بطرس (المشرف العام لخطة لبنان للإستجابة للأزمة السورية ومستشارة وزير الشؤون الاجتماعية) 03508115
جمعية Asmae- Soeur Emanuelle
81453087