لم يَكن التعميم الصادر قبل أيام عن قيادة الجيش إلى الضبّاط والعسكريين عاديّاً ومألوفاً. فقيادة الجيش، التي تلتزم قرارات السلطة السياسية، وآخرها المُذكّرة الصادرة عن الأمانة العامّة لمجلس الوزراء في ما يتعلّق بتمديد العمل بالتوقيت الشتوي خلال شهر رمضان، دعت عسكريّيها إلى عدم قبض رواتبهم عن شهر نيسان قبل أن تتمّ معالجة موضوع سعر صيرفة بالسعر المناسب بدلاً من 90 ألف ليرة، وذلك للمرّة الأولى منذ اندلاع الأزمة المالية، في ما يشبه التمرّد على الحكومة والأمر الواقع. بعد فترة وجيزة “نَسَخت” قيادة قوى الأمن الداخلي وباقي الأجهزة التعميم نفسه طالبة من العسكريين عدم قبض رواتبهم… والانتظار.
“السِعر المُناسب” الذي على أساسه توجّه الضبّاط والعسكر بدءاً من يوم الجمعة إلى المصارف لقبض رواتبهم بسعر منصّة صيرفة 60 ألفاً لم يكن “مُناسِباً” إطلاقاً مقارنة بحجم الكارثة المعيشية والاقتصادية.
تتقاطع كلّ قيادات الأجهزة الأمنيّة والعسكرية عند قرار السماح للعسكريين بالعمل “شغلة تانية”، وهو أمرٌ أصعب للضبّاط مقارنة بالعسكريين الذين يخدم بعضهم في مطاعم أو يقدّم خدمة الفاليه باركينغ
رأى البعض في قرار القيادتين خطوة استيعابية لِغَضب العسكر والضبّاط الذين كانوا سيشهدون على جولة جديدة من تآكل رواتبهم إلى أكثر من نصف قيمتها لو قبضوها على سعر 90 ألفاً. لكن ما الفارق فعلاً بين السِعرين؟
في حالة الجندي أو الرتيب حصّل من “صيرفة” (على الـ 60 ألفاً بدلاً من 90 ألفاً) زيادة بقيمة 30 دولاراً تقريباً من أصل راتب تدنّت قيمته مع كلّ الزيادات السابقة إلى نحو 100 دولار، لكنّه فعليّاً خسر 25% من راتبه لأنّه لم يقبضه على سعر صيرفة السابق 45 ألفاً. والضابط برتبة مقدّم الذي كان معاشه نحو 300 دولاراً على سعر منصّة صيرفة 45 ألفاً، اليوم بات نحو 225 دولاراً على سعر صيرفة 60 ألفاً، أي خسارة فوق خسارة بقيمة 75 دولاراً، والحكومة “تُمنّن” العسكر…! أرقام تكشف فظاعة الوضع المالي للعسكريين على الرغم من كلّ التقديمات الممنوحة لهم والتي تتفاوت بشكل كبير بين جهاز وآخر.
رواتب الفوضى
فعليّاً، مع منصّة صيرفة بسعر 60 ألفاً نحن نتحدّث عن رواتب تراوح قيمتها الفعليّة بين أقلّ من 100 دولار (العسكر) و300 دولار كحدّ أقصى (رتبة عميد أو عماد أو لواء).
لكن مع ذلك، قرأ كثر في قرار قيادة الجيش مؤشّراً يتضمّن رسالة سياسية من الجيش إلى “قوى الأمر الواقع”، حكومة ووزراء وحاكمية مصرف لبنان، تفيد أنّ اليرزة لن تسكت على أيّ إجراء مالي يمكن أن يوسّع هامش النقمة والتمرّد داخل الأسلاك العسكرية المُنهَكة أصلاً والمُستَنزَفة. وهو الجيش نفسه الذي يُطلَب منه قمع تحرّكات العسكريين المتقاعدين وباقي التظاهرات المطلبية حين تتجاوز الخطوط الحمر، وحماية المقرّات الرسمية والوزارات ومقرّ الحاكمية.
بلاغ رقم 2
البلاغ رقم واحد للقيادات العسكرية والأمنيّة قد يتكرّر الشهر المقبل حيث لا ضمانات لقبض العسكريين رواتبهم كلّ شهر على سعر صيرفة 60 ألفاً. فقرار حاكم مصرف لبنان بالتوقّف مجدّداً عن التدخّل بالسوق، وهو أمرٌ مُتوقّع، سيُشعِل السوق السوداء، ثمّ سيقرّر رياض سلامة مجدّداً رفع سعر صيرفة بالتوازي مع ارتفاع الدولار بشكل جنوني كما حصل سابقاً.
“السِعر المُناسب” الذي على أساسه توجّه الضبّاط والعسكر بدءاً من يوم الجمعة إلى المصارف لقبض رواتبهم بسعر منصّة صيرفة 60 ألفاً لم يكن “مُناسِباً” إطلاقاً مقارنة بحجم الكارثة المعيشية والاقتصادية
كما أنّ أخذ الحكومة بمطلب موظّفي القطاع العام بقبض رواتبهم على سعر صيرفة 15 ألف ليرة (هو أمر مستبعد جدّاً) أو الدولرة الكاملة وفق سعر ثابت، ومطلب العسكريين المتقاعدين دفعها على 38 ألفاً، سيُبقي العسكريين في الخدمة الفعليّة في دائرة خطر “شفط” رواتبهم ربطاً بتقلّبات سعر صرف الدولار.
لا بدّ من الإشارة إلى سلسلة مؤشّرات غير مُطمئِنة ترافق اليوم خضّة الرواتب في القطاع العام والأسلاك العسكرية والأمنية.
نزوحٌ مُعاكِس
على مستوى الجيش وعلى الرُغم من رَصد حركة “نزوح” مُعاكِسة من عسكريين سُرّحوا ثمّ عَدلوا عن رأيهم بعدما وجدوا في الجيش ملاذاً تتوافر فيه الطبابة ومئة دولار فريش والأدوية ومساعدات غذائية مع “تسهيل مرورهم” باتجاه قيامهم بأعمالٍ “مَدنية” ترفع من قدرتهم على الصمود، فإنّ القرار المُتّخذ أخيراً في الجيش الذي قضى بتقليص عدد أيام الدوام في القطعات العسكرية الثابتة إلى يومين بدلاً من أربعة أيام يعكس صعوبة استمرار المؤسسة العسكرية بأجندة العمل نفسها. وهذا يعني أنّ هناك خمسة أيام يمضيها العسكري والضابط خارج ثكنته ومقرّ خدمته، وعلى الأرجح أنّه يلتزم بمتطلّبات عمل آخر لكسب العيش لا علاقة له بثوابت المؤسسة من انضباط ومناقبية وولاء واحترام القانون والرؤساء.
هو واقع يُضاف إلى حركة التمرّد على قبض الرواتب بسعر صيرفة 90 ألفاً. يمكن بسهولة تخيّل سيناريو دعوة القيادة مجدّداً العسكر والضبّاط إلى عدم قبض رواتبهم “إلا بالسعر المناسب”، في حال ارتفع سعر صيرفة مجدّداً، في مقابل عدم سير وزارة المال بالاقتراح، فينقسم العسكر بين من يقبضون “فتاتاً” على سعر منصة صيرفة وبين من يلتزمون عدم قبض رواتبهم إلى حين صدور قرار معاكس. في الحالتين الكارثة حاصلة. وبعد كلّ هذا يُطلب من الجيش وقوى الأمن تنفيذ مهمّات أمنيّة حسّاسة وأخرى مرتبطة بلجم الشارع المنتفض ضدّ سياسات الحكومة.
معاناة في قوى الأمن
في قوى الأمن الداخلي يبدو الأمر أصعب بكثير. وفق المعلومات، حتى الآن لم يصل إلى العسكريين في قوى الأمن الداخلي مئة دولار فريش من أيّ دولة مانحة، والطبابة شبه معدومة باستثناء الدفع من صندوق خاص في المديرية العامّة للمستشفيات وفق حالات معيّنة ومحدّدة فقط، والدواء شبه مفقود في الصيدليات وجزء كبير منه إن وُجِد يذهب لصالح صيدليات السجون لأنّ طبابة السجناء تدخل من ضمن طبابة قوى الأمن، والتغذية خلال المهمّات مفقودة بعكس الجيش، والمواصلات من خلال الفانات العسكرية غير كافية للأعداد الكبيرة التي استغنت عن استخدام السيارة الشخصية للوصول إلى مقرّ العمل، والتسريح من الخدمة ممنوع في قوى الأمن، والمأذونيات للسفر خارج البلاد متوقّفة للرتب الصغيرة ومحدودة جدّاً للمقدَّمين والعقداء وما فوق على عكس الجيش الذي يوقِّع قرارات بالسفر لبعض الضبّاط من كلّ الرتب.
… إلّا الفاليه باركينغ
في المقابل، تتقاطع كلّ قيادات الأجهزة الأمنيّة والعسكرية عند قرار السماح للعسكريين بالعمل “شغلة تانية”، وهو أمرٌ أصعب للضبّاط مقارنة بالعسكريين الذين يخدم بعضهم في مطاعم أو يقدّم خدمة الفاليه باركينغ.
يُذكر هنا أنّ المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان أكّد قبل أشهر، وبشكل غير مباشر، أنّ العسكر باتوا يمتهنون مهناً أخرى إلى جانب خدمتهم العسكرية، وبعضهم يقدّم خدمة الفاليه باركينغ لشركات ومطاعم ومتاجر، وذلك من خلال إصداره برقية يحظر فيها على العسكر العمل في خدمة “الفاليه” من دون ذكر لأيّ مهنة أخرى.