المصدر: “الراي الكويتية”
شكّل دخولُ عوامل جديدة ومن مصادر متنوّعة على الملف اللبناني لدى صندوق النقد الدولي، بدايةً لمسارٍ جديد رشح أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي سيتولاه شخصياً ضمن مبادرة متكاملة لدفع عربة «القطار» المتوقفة في محطة الاتفاق الاولي المنجَز على مستوى الخبراء إلى نقطة الوصول المستهدَفة قبيل اجتماعاتِ الخريف لمجلس محافظي الصندوق التي تنطلق دورياً مطلع ايلول المقبل.
ويبدو أن الديناميةَ الطارئة تقوم على تفاهماتٍ مسبقة مع رئاسة مجلس النواب وفاعلياتٍ نيابية وازنة في اللجان المختصة، ما يرفع منسوبَ الترقّبات التفاؤلية بتحقيق تقدُّمٍ مضطرد ونوعي على مسار استجابةِ السلطات التنفيذية والتشريعية لحزمة الموجبات الاجرائية والقانونية التي تم الالتزام بمواكبتها من خلال مندرجات الاتفاق الاولي، ولا سيما أنها تتصف بالقوة الشَرْطية ليس من قبل ادارة الصندوق فحسب، بل من «نادي» المبادرة الفرنسية والدول والمؤسسات الاقليمية والدولية التي تربط أي مساعدة او تمويل بمصادقة المؤسسة المالية الدولية على الاتفاق وشهادته بانخراط البلاد في برنامج إصلاحاتٍ هيكيلة وبنيوية شاملة.
ويؤكد مسؤول مالي لـ «الراي» أن «القناعات الداخلية تترسخ بأن العواصف الاقليمية والدولية وتداعياتها على الاقتصادات العالمية قد تحجب عن لبنان فرصةَ إنجازِ الاتفاق النهائي مع صندوق النقد أو تبطيء مساره إلى وقت غير معلوم، بالنظر الى تأثيراتِ حماوة النزاعات المفتوحة على جبهات متعددة، وخصوصاً الحرب في أوكرانيا وما تفرزه من إرباكاتٍ في سلاسل الإمداد ووصول المواد الأساسية والغذائية، لجهة انكفاءٍ متزايدٍ في حجم الاستثمارات في الأسواق الدولية وتقلصات أكبر في سيولة الأسواق المالية، فضلاً عن الارتفاعات الصاروخية في معدلات التضخم التي تشغل أولويةً لدى الدول المرشحة لمساعدة البلد المنكوب».
وبمعزلٍ عن المسارات السياسية المضطربة التي يشهدها لبنان في مرحلة استحقاقاتٍ دستورية داهمة، بدءاً من شِبْه استعصاءِ تأليف حكومةٍ جديدة وتَفَشي الانطباع نفسه الى استحقاق انتخاب رئيسٍ جديد للبلاد قبل أو بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال عون نهاية شهر تشرين الاول المقبل، يرجّح المسؤول المالي تطويرَ الدينامية المستجدة للانتقال إلى مرحلة إنجاز «فروض» السلطات عبر تعاونٍ مثمرٍ يُفْضي إلى تعديلاتٍ منشودة في خطة التعافي التي أقرّتْها الحكومة في آخِر جلساتها الدستورية منتصف الشهر الماضي، توطئةً لتحريكٍ موازٍ يكفل الالتزامَ بحزمة الشروط التنفيذية والتشريعية المكمّلة.
ويدعو المسؤول المالي إلى رصْد معطياتِ هذه التحولات المنشودة عبر ما سيُدْلي به ميقاتي أمام لجنة المال والموازنة النيابية التي تلتئم مطلع الأسبوع الطالع، ولا سيما من إشارات وتعديلات تنشد خصوصاً «التوزيع العادل للخسائر التي تربو على 75 مليار دولار والحرص على المودعين في البنوك» وتعهدات بدرس أي اقتراحات مُجْدِية بما يشمل الصندوق الاستثماري وإطلاق المسار التفاوضي الجدي مع دائني الدولة، وخصوصاً مع حاملي سندات الدين الدولية (يوروبوندوز) الذين تصل مستحقاتهم الى نحو 37 مليار دولار.
بذلك، تشير دلائل ومعلومات متقاطعة إلى إمكان انطلاق «العربة» مسنودةً بمنطقٍ تَشارُكي أوسع نطاقاً، وتحت لافتة وجوب مواكبة الفرصة السانحة لحيازة «المفتاح السحري» للانخراط قبيل انتهاء العام الجاري في إنجاز الاتفاقية النهائية لبرنامج التمويل الممدَّد مع صندوق النقد، والمحدَّدة مبالغه بنحو 3 مليارات دولار لمدة أربع سنوات.
ويبدو أن القطاع المالي ليس بمنأى عن هذه الأجواء، بدليل التصحيح الأقرب للتراجع عن مضمونِ كتابٍ وجّهه مستشارٌ لجمعية المصارف الى بعثة الصندوق المنوطة بالملف اللبناني، لتعود الجمعية وتُصْدِر بياناً رسمياً نقيضاً وفيه «يهمّ جمعية مصارف لبنان أن توضح أنها لا تُعارِض بالمطلق الاتفاقَ بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، وخصوصاً أنها تعتبر أن هذا الاتفاق هو أحد أهمّ أبواب الحل للخروج من الأزمة الحالية، إلا أن الجمعية تشدّد في الوقت عينه على أن أي حل يجب أن يوفّق بين تراتبية المسؤوليات ونسبة تَحَمُّل الخسائر، فلا يتمّ تحميل القطاع المصرفي والمودعين كافة الخسائر التي تَسَبَّبَ بها القطاع العام على مرّ السنين، وأن الجهود يجب أن تتضافر للبحث في الحلول المتوافرة حالياً لردم الفجوة المالية عبر المحافظة على الودائع وليس شطبها».
وليس بعيداً عن الملف وحيثياته ما سبّبتْه الالتباساتُ الأخيرة من ظهور اعتراضاتٍ «غير مألوفة» من مصرفيين على المواقف المعلَنة والمستترة لجمعية المصارف. وبرز في هذا السياق تعليق أحد البنوك عضويّته في الجمعية (بنك الموارد)، وإشهار انتقادات مباشرة، إنما مصحوبة بالدعوة الى توسيع التشاور والمشاركة في القرارات، من قبل إدارتيْ مصرفين آخريْن (عودة وميد)، فضلاً عن النأي السابق لمصرف رابع (اللبناني السويسري).
ووفق تفسير مصرفي كبير فإن هذه المستجدات ضمن «العائلة المصرفية» ليست مرشّحة مطلقاً لمزيدٍ من التفاقم، بخلاف ما عكستْه من وجودِ انقساماتٍ في الرؤية والمقارَبات، «بل يمكن تصنيفها ضمن ردات الفعل (فشة خلق) المشروعة بسبب مناخات التوتر الحاد الذي يسود مختلف قطاعات العمل والانتاج، والتي تصطدم يومياً بزبائنها وبمشكلات جديدة وبتفاعلاتٍ أشد وطأة للأزمات البنيوية والانهيارات المستمرة فصولاً نقدياً ومالياً، بينما انحرفت بوصلة الخطة الحكومية للانقاذ والتعافي الى خلاصاتٍ مؤلمة تبرىء الدولة ومصرفها المركزي وتلقي بحِمْلٍ ثقيل يناهز 60 مليار دولار على المودعين والجهاز المصرفي، وهو ما نأمل تصويبه في قادم التحركات الموعودة ذات الصلة برئاسة الحكومة».
ويبقى الأهمّ في المحصلة أن السلطات اللبنانية التزمت في مندرجات الاتفاقية مع بعثة الصندوق على مستوى الخبراء، بالعمل على استكمالِ مجموعةٍ مهمة من التدابير قبل عرض الملف النهائي على اجتماع المجلس التنفيذي للصندوق، وتتضمن هذه التعهدات:
- موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية إعادة هيكلة البنوك التي تقر مقدَّماً بالخسائر الكبيرة التي تَكَبَّدَها القطاع وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحدّ من الاستعانة بالموارد العامة.
- موافقة البرلمان على تشريعٍ طارئ مُلائم لتسويةِ الأوضاع المصرفية على النحو اللازم لتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة البنوك والبدء في استعادة صحة القطاع المالي، وهو ما يُعَدّ عاملاً جوهرياً لدعم النمو.
- الشروع في تقييمِ أكبر 14 بنكًا، كلٌّ على حدة، بمساعدةٍ خارجية من خلال التوقيع على نطاق التكليف مع شركة دولية مرموقة.
- موافقة البرلمان على تعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، وإدارة الضرائب، وكذلك الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.
- الانتهاء من التدقيق ذي الغرض الخاص المتعلق بوضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان، للبدء في تحسين شفافية هذه المؤسسة الرئيسية.
- موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامة والدين، وهو أمرٌ ضروري لإعادة الديون إلى مستوى يمكن الاستمرار في تَحَمُّله، وإرساء مصداقية السياسات الإقتصادية، وإيجاد حيز مالي للإنفاق الإضافي على البنود الاجتماعية وإعادة الإعمار.
- موافقة البرلمان على موازنة 2022، للبدء باستعادة المساءلة المالية.
- قيام مصرف لبنان بتوحيدِ أسعار الصرف لمعاملات الحساب الجاري المصرَّح بها، وهو أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز النشاط الاقتصادي، واستعادة الصدقية وسلامة الوضع الخارجي، مع دعم ذلك بفرض ضوابط رسمية على رأس المال.