ربما صار لزامًا على اللبنانيين التخلي عن الوهم المتجذر في وعيهم والقائل إن واقع بلادهم يخضع للوقائع الإقليمية والدولية. لبنان يتأثر حتمًا بمحيطه الجغرافي. لكن لا بد من التخلي عن وهم مجيء خلاص لبنان من الخارج، والانصراف إلى العمل الداخلي للخروج من الأزمات المعيشية، بعيدًا عن انتظار مفاوضات فيينا التي تتمحور حول البرنامج النووي الايراني، ما دامت لا تطرّق للملف اللبناني ولا لأي ملف إقليمي. وفي حال الوصول إلى اتفاق نووي، فقد يفسح مجالًا لاستفادة دول في المنطقة منه، على صعيد التهدئة والاستقرار.
أ
وروبا: انتخابات أو عقوبات
هناك مشاكل يومية كثيرة في لبنان لا علاقة لها بما يجري في الإقليم، ولا بد من حلّها. بهذا الكلام يتوجه مصدر ديبلوماسي فرنسي إلى اللبنانيين، كي لا ينتظروا الاستحقاقات الإقليمية والدولية لمعالجة مشكلاتهم الداخلية.
ويركز المصدر على ضرورة اهتمام اللبنانيين بشؤونهم الداخلية قائلًا: “نحن نرغب أن تجري انتخابات لبنان النيابية في موعدها. المجتمع الدولي موقفه موحّد في ذلك. وأشدد على كلمة موحّد. وهذا يمثل مجموعة الدعم الدولية. وهناك فرصة أمام اللبنانيين. وهي امتحان مهم لاختبار جدية الدولة اللبنانية في ما ستفعله. نحن واضحون جدًا، والانتخابات ينتظرها الشعب اللبناني، وهي إجراء دستوري. الاتحاد الأوروبي شدد على إجراء الانتخابات، ووضع إطارًا للعقوبات في حال تخلف الدولة عن إجرائها في موعدها. إذا عُطِّلت، هناك احتمال كبير بفرض عقوبات أوروبية. نحن واضحون في هذه الموضوع. ويعيش اللبنانيون منذ سنوات ثلاث وضعًا صعبًا. ومن الطبيعي أن يتوقوا لإجراء الانتخابات في وقتها المحدد”.
حول المساعدة لإجراء الانتخابات في موعدها، يقول المصدر إن التحضيرات أنجزت، و”لا نعتقد أن هناك معوقات تمنع اجراءها. وأعتقد أنه يجب إنجازها. وهنا أتكلم باسم المجتمع الدولي. ووافقنا على تنظيم العملية الانتخابية. الدول الأوروبية بالتعاون مع الأمم المتحدة خصصت 7 مليون يورو لتأمين اللوازم اللوجستية لإنجاز عملية التصويت. وهذا مبلغ كاف لتنظيم العملية وتجهيز أقلام الاقتراع. وهناك تنسيق مع الأمم المتحدة التي تحشد جهودها. ونعمل للتحقق من أن الموازنة المخصصة للانتخابات تبلغ حوالى 15 مليون دولار، وسوف تتوفر لوزارتي الداخلية والخارجية. وهذا مبلغ لا يُستعصى تأمينه. وهناك اجتماعات مع الأمم المتحدة لتحضير اللوازم كلها”.
المغتربون ونصرالله
والسؤال عن تصويت المغتربين اللبنانيين أمر في غاية الأهمية. فكما شددت فرنسا على ضرورة مشاركة فرنسيي الخارج في الانتخابات، يرى الديبلوماسي الفرنسي أن هناك “حماسة لدى المغتربين اللبنانيين للمشاركة في انتخابات بلدهم. وهذا ليس مستحيل، بل يحتاج إلى بعض التنظيم والدقة. والمجتمع الدولي قدم الدعم اللازم لذلك. وفي حال لم تجر الانتخابات، فأنا أقول إن السبب سياسي. الأمر الأساسي والمهم هو توجه اللبنانيين إلى صناديق الاقتراع ليعبّروا عن رغبتهم الحقيقية في المشاركة بصنع القرار السياسي”.
حول كلام نصرالله أن هناك سفراء يسعون إلى تأجيل الانتخابات، قال المصدر الديبلوماسي الفرنسي: “أترك للسيد نصرالله أن يتحمل المسؤولية عن تصريحاته. نحن نقول، وباسم الشركاء الغربيين ولا سيما الأميركيين، إن الموقف ثابت من الانتخابات. وليس هناك تطرق أبدًا لاحتمال تأجيلها. وهناك إجماع دولي لإجرائها في موعدها. وهذا يوافق عليه المجتمع الدولي بما فيه روسيا والصين”.
انتخابات بداية التغيير
وردًا على مقولات أن الانتخابات ستؤدي إلى التجديد للطبقة السياسية يقول المصدر إياه: “نحن نتوجه إلى اللبنانيين بضرورة التصويت. ونقوم بواجباتنا في مساعدة لبنان وتوفير الظروف الملائمة، وعلى اللبنانيين المشاركة. وهم يقترعون لمن يختارونه. ولا يجب القول: لا جدوى من التصويت، بل هو مهم جدًا، وستكون هناك مراقبة أوروبية ومراقبون من السفارات”.
ويضيف المصدر: “فرنسا لم تفكر يومًا أن هذه الانتخابات ستؤدي إلى تغيير الطبقة السياسية. الطبقة السياسية لا يمكن تغييرها في استحقاق انتخابي واحد. هذا لا يحصل في أي مكان من العالم. وهذه الدورة الانتخابية هي المرحلة الأولى. وهناك انتخابات نيابية، رئاسية، وبلدية. الانتخابات في لبنان تجدد الحياة السياسية شيئًا فشيئًا. والتغيير يحصل دومًا من خلال العمليات الانتخابية، ولكنه يحتاج إلى وقت يحسب بالسنوات. وقد تكون الانتخابات فرصة لإعادة التموضع. ولا يمكن للتغيير أن يكون نتاج هذه الدورة فقط. وليس لدى فرنسا والمجتمع الدولي أي أوهام في ما يتعلق بالعملية الانتخابية”.
قوى المجتمع المدني
وحول تعويل فرنسا والمجتمع الدولي على قوى المجتمع المدني، وإذا حصلت خيبة أمل بعد التشتت الذي أصاب هذه القوى، يجيب المصدر: “هناك نوعان من المجتمع المدني: بعضهم من لا يهتم أبدًا بالسياسة. وهي جمعيات فاعلة على الأرض وتساهم في مساعدات مختلفة. وتشكل مصدر قوة للبنان، كما أنها عابرة للطوائف. وفرنسا والمجتمع الدولي يدعمان هذه الجمعيات لتقديم حلول لمشاكل اللبنانيين.
أما النوع الثاني فيشمل الأشخاص الذين برزوا من المجتمع المدني وبدأوا يلعبون دورًا سياسيًا. هؤلاء نحاورهم وندعمهم ونستمع إليهم. ونحن نصغي إلى الجميع. ومنهم هذه المجموعات المنقسمة. وحضورها يشير إلى أن لبنان بلد التعددية. ونحن لا نتدخل في تقييم انقسام هذه المجموعات. نحن نتحاور مع الجميع والهدف مساعدة لبنان واللبنانيين. ونقف إلى جانب طموحهم في التغيير وتحسين أوضاعهم”.
الإصلاحات والعلاقات الخليجية
عن عودة سفراء الخليج إلى لبنان يقول المصدر: “فرنسا تقوم بدورها الطبيعي بين لبنان ودول الخليج، وخصوصًا السعودية. وهي سعت بقوة إلى عودة سفراء الخليج إلى لبنان، وتوسطت لنزع فتيل التوتر. وسعت لتأمين شروط العودة. الرئيس الفرنسي زار السعودية وحصل نقاش في المسألة اللبنانية. هناك علاقة استراتيجية بين فرنسا ودول الخليج. والحوار متواصل لمنع المزيد من التصعيد ضد لبنان، الذي لا يمكنه الانقطاع عن الدول العربية، ولا ينهض من دون دول الخليج. وما قامت به فرنسا خلال الأزمة يندرج في سياق عمل مستمر لإدراج لبنان على الأجندة الدولية والإقليمية. ومع الأسف، هذا ليس بالأمر السهل. فلبنان لا يشكل أولوية. وفرنسا في حوارها مع دول المنطقة والشركاء قادرة على إدراج لبنان في لائحة الاهتمامات الدولية. وعلى لبنان مساعدة المجتمع الدولي بنأيه عن الصراعات الإقليمية وإجراء الإصلاحات الضرورية لمصلحة اللبنانيين. ولا بد من الإشارة إلى أهمية توقيع الاتفاق الأولي مع صندوق النقد. والمجتمع الدولي ينتظر إثباتات في أن الدولة جادة في العمل على إجراء الانتخابات والإصلاحات”.
يشدد المصدر على عدم توفر النهوض في لبنان من دون دول الخليج: “نحن شددنا على أن عدم اهتمام دول الخليج بلبنان، استراتيجية غير جيدة. فهناك علاقات خليجية تاريخية بلبنان، وهناك طائفة سنّية كبيرة وروابط صداقة تجمع الخليجيين بأطياف الشعب اللبناني كلها. والعقوبات لن تغير أي شيء على الصعيد السياسي في المدى المنظور. وهم اتخذوا القرار بالعودة. وهناك عمل مشترك مع السعودية على برامج هادفة ودعم مشترك. المهم ليس حجم المبالغ المالية، بل المهم أنها مشاريع إنسانية”.
لا مؤتمر دوليًا في الأفق
ماذا عن عقد مؤتمر دولي حول لبنان؟ ويجيب الديبلوماسي الفرنسي: “يجب أن يتخلى بعض اللبنانيين عن أوهامهم بأن بلدهم قادر على النهوض بنفسه. لا يملك لبنان ترف القول إنه ليس بحاجة لدعم المجتمع الدولي. حتى الآن ليس من مؤتمر حول الوضع اللبناني. هناك صندوق النقد الدولي فقط. ونحن نعمل على تسهيل كل الملفات المطروحة، ولا أحد يستطيع أن يحل مكان اللبنانيين. الأولويات الفرنسية حول لبنان قبل الانتخابات النيابية والرئاسية أو بعدها مستمرة على حالها. الأولويات محددة مع الرئيس ماكرون: النهوض الاقتصادي واستتباب الأوضاع المالية. العمل على وضع برنامج مع صندوق النقد. التشديد على إجراء الانتخابات والاستحقاقات الأخرى في مواعيدها. بعدها نرى كيف تسير الأمور. نحن نعرف ما هي الوجهة المقبلة. وفي حال أعيد انتخاب ماكرون يبقى لبنان أولوية. لكن النافذة لن تبقى مفتوحة في حال لم يتحقق شيء من الشروط. هناك تطورات عالمية. واليوم لا قدرة على تنظيم مؤتمرات لدعم لبنان كما في السابق. نحن لدينا مسؤوليتنا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن. والواقع الجيوسياسي يفرض على لبنان التنبه للفرصة المتاحة أمامه الآن”.
وردًا على سؤال حول علاقة فرنسا بحزب الله، يجيب المصدر: “فرنسا تتحاور مع كل الأحزاب اللبنانية ومن بينها حزب الله. والحوار يكون في الأمور السياسية عندما تدعو الحاجة. والأساس هو الثقة. والأهم أن النقاش يكون عن لبنان ومصلحته، بلا مجاملات. وقد يكون هناك اختلاف في وجهات نظر والتقاء في أخرى. والأهم هو استقرار لبنان. والحوار مع الأحزاب السياسية هو نفسه مع الأحزاب كلها، ونتحدث بالطريقة نفسها مع الجميع”.