تدفع كثرة الخيبات المواجع بالمرء إلى العدمية. تكرار المآسي، ومعايشة الكوارث، تحملان المرء وقوة شعوره البشري على التطلع إلى ما وراء الأحداث. فيطغى حيال ما ارتكب ويرتكب الغرقُ في حزن التعاطف والخوف. غرق يوازي غرق عشرات ألوف الأشخاص وموتهم في البحر الأبيض المتوسط في السنوات العشر الفائتة.
الضحية وسلّاخوها
في لبنان تتصدّر طرابلس وقائع مأساة شرق المتوسط. فهي التي ينال أهلها من الوجع القسط اللبناني الأكبر، ويتجرعون كؤوس الفواجع حتّى ثمالتها. يُراد لها أن تكون أفقر المدن، ورصيفًا على بحر يلجأ إليه اللبنانيون وسواهم، هربًا من جحيم بلدانهم، فيغرقون في اليم وتبتلعهم الأمواج.
منذ سنوات تحوّلت طرابلس ميناءً تتجمع فيه جموع من جنسيات مختلفة ترتمي في البحر. كأنما يُراد للمدينة أن تكون مصنعًا للضحايا: بعضهم يساق إلى السجون بحكم الألاعيب الأمنية والمكائد. آخرون يُراد لهم الالتحاق بتنظيم داعش، استثارة لخيباتهم واستثمارًا لفقرهم واستغلالًا لوجعهم. فئة ثالثة تُدفع إلى ركوب البحر، بعد فقدانها أمل العيش على اليابسة.
هذه الصورة تعرفها المدينة جيدًا، وخبر أبناؤها ما يُحاك لهم، بعدما ظلموا على مدى قرن من الزمن. وحين يختار أهل طرابلس الانخراط في الوطن، تُنبذ ويزداد تهميشها لتبقى الضحية. ولطالما يتربص بالضحية ألوف السلّاخين، الذين يعرفون جيدًا كيف يعملون على سلخها عن محيطها، ورميها في غربة لا تنتهي.
على طريق سوريا
تختصر طرابلس المظلومية اللبنانية، والفوضى الممنهجة التي يُراد لها أن تبقى مسيطرة على المدينة. وثمة من يسعى إلى تعميمها في أصقاع البلاد. مواجع المهاجرين معروفة ومفهومة، وكذلك استغلال تجار الموت مواجع الناس. بحر طرابلس مراقب ومرصود، وبرّها متروك للفوضى والإهمال. هكذا يريد من يسعى إلى نزع صورة ساحة النور في ليالي 17 تشرين من أذهان اللبنانيين، لتبقى ليالي الشمال حزينة، وتكريس صورة قندهار لها. والمدينة المفقرة، هناك فكر جهنّمي يستثمر مواجعها وبحثَ أهلها عن حياة تليق بهم، بعيدًا من جحيمهم. والمستثمرون هؤلاء يندفعون إلى التعاطف معهم وتبرير هجرتهم أو هربهم. فتفرغ المدينة بداية، والبلد بعدها، في تكرار مشاهد قوارب الموت السورية التي غرقت في البحر، لتجد سوريا نفسها خالية من سكانها، وغالبيتهم من الشباب.
جمهورية أشباح
ما يجري في طرابلس يختصر الصورة اللبنانية عمومًا، بناء على تفاوت طبقي واضح. فئة من الشباب المتعلم تهاجر من المطار، وقادرة على توفير مقومات السفر. ومن لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً مصيره البحر. ولا تقتصر الهجرة على “متعلمين” أو طالبي علم، أو فئة اجتماعية معينة على وقع انهيار كل القطاعات اللبنانية، بل تمتد لتشمل كل فئات المجتمع. وهذا يقود إلى إفراغ البلاد من أبنائها. فيسود تعميم تحويل لبنان إلى جمهورية أشباح.
لا شك أن الحادثة بحاجة إلى تحقيق شفاف وسريع وجدّي ومحاسبة المرتكبين. من مهربّين وعسكريين لم يحسنوا التعامل أو التصرّف. خصوصًا أن الخطأ في الحساب والتعامل، وردّ الفعل العنيف، مفهوم وقد تُستخدم لتشكّل مانعًا للجيش من استكمال مهامه. فتطلق أشرعة الهجرة من طرابلس بلا رادع، وتتكرر مشاهد اللاجئين الغارقين في البحر.
طرابلس ليست وحدها في هذا المصاب. فنموذج تعميم الفوضى الاجتماعية والأمنية والسياسية والمعيشية بفعل الأزمات وانهيار القطاعات، يُراد له أن يتعمم من الشمال المستهدف دومًا، إلى الجنوب، وما بينهما أمن مفتقد في مختلف المناطق. وهذا يجعل بيروت مدينة أشباح ليلية، لا طعم فيها للحياة ولا للسياسة ولا حتى للاعتراض أو المواجهة السياسية، لشبان حلموا بثورة وترجموها، لكنهم ضربوا بها ولا زالوا، فأصبح المطار وجهة المقتدرين والبحر وجهة الفقراء، بدلًا من الساحات والميادين.