منذ جلوسه على كرسي بطريركية انطاكية وسائر المشرق للطائفة المارونية، قبل اكثر من عقد من الزمن، يطرح البطريرك بشارة بطرس الراعي شعارات مرحلية، لكنها تصب في استراتيجية بكركي في مقاربتها للواقع اللبناني، فدعا رأس الكنيسة المارونية الى “شركة ومحبة” ثم “الحياد” واخيرا دعوته “لتدويل” الازمة اللبنانية.
في كل هذه العناوين، لم يتحقق للبطريرك الراعي ما رغب به “فالشركة والمحبة” ليستا متوافرتين في مجتمع تقسمه الطائفية والمذهبية عموديا، حيث لم يرسم البطريرك الراعي خارطة طريق للوصول الى وحدة الحياة بين اللبنانيين، وليست “الشركة والمحبة”، لان الشركة يمكن ان يختلف فيها الشريكان او الشركاء ويدعوان الى الانفصال، كما في شركة الزوجين التي تقوم على المحبة، وعندما يختلفان يكون الطلاق ثالثهما، الا في “الزواج الماروني”، فالهجر هو ما يمكن ان يتوصل اليه الزوجان بقرار قضائي كنسي، وان قياس “الشركة والمحبة” لا يستقيم في ظل التعدد الطائفي والمذهبي في لبنان، الذي هو مجموعة اقليات يصلح لهم نظام لا طائفي ومجتمع مدني يفصل بين الدين والدولة، وفق ما قرأ اكثر من مرجع في الفكر السياسي والدستوري، بأن المجتمعات المتعددة الانتماءات الطائفية او العرقية امامها وحدة المجتمع بازالة الحواجز الطائفية من امام مواطنيها او الانعزال واقامة “كانتونات” او “غيتوات” او “معتقلات طائفية”.
وهذا النموذج جرب الى حد ما اثناء الحرب الاهلية وسقط، والشركة التي يدعو اليها البطريرك الراعي المتوجة بالمحبة، يجب ان تقوم على اساس الانتماء الى الارض لا السماء، لان اقتتالنا على السماء افقدنا الارض، كما نبه المفكر النهضوي انطون سعاده، وهذا ما يجب ان يوضحه البطريرك الماروني، لان في شعاره ايجابيات لكن لا بد من التحديد الذي هو شرط الوضوح، وعندما يستخدم مصطلح الشريك يتحول لبنان الى شركة التي تتوزعها الاسهم والحصص، وهناك من يكون له الحصة الكبرى في الشركة، فتتحول الى امتياز الذي كان يستخدم في تصنيف الموارنة بانهم “اصحاب الامتيازات” في الدولة او السلطة.
وكما الشركة والمحبة، فان طرح البطريرك الراعي “للحياد” التبس على الكثير من اللبنانيين عمن سيكون الحياد، هل عن المحيط الطبيعي للبنان في بيئته الجغرافية، التي له فيها دورة اقتصادية اي الابتعاد عن سوريا او عن المسألة الفلسطينية والصراع مع العدو الاسرائيلي الذي له اطماع في كل المشرق العربي، ومشروعه هو “اسرائيل الكبرى” في العقيدة اليهودية التوراتية التلمودية.
الجغرافيا الطبيعية والسياسية لا يمكن ان تضع لبنان على “الحياد”، الذي يقود الى تباعد بين اللبنانيين الذين يظهرون كل يوم بانهم منقسمون حول العدو الاسرائيلي، كما حول تحديد “للعروبة” وانتماء لبنان اليها وفق دستوره، فهل هي “عروبة” تضم “اسرائيل” التي طرحها شيمون بيريز في مشروعه “للشرق الاوسط الجديد”، وتبنته ادارة الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الابن تحت اسم “الشرق الاوسط الكبير”، وهو من صناعة “اللوبي اليهودي” في الادارة الاميركية، وتخطيط “المحافظون الجدد” فيها.
وقد ترك “حياد” البطريرك غموضا حوله، وهو الامر نفسه على مقولته الثالثة في دعوته الى “تدويل لبنان”، بتدخل الامم المتحدة لحل موضوع ازمته التي تجلت في عدم انتخاب رئيس للجمهورية، وحصول شغور في هذا المنصب، حيث تتخوف الكنيسة المارونية من ان تفقد هذا الموقع الوحيد للمسيحيين في العالم العربي، والذي يتسبب الموارنة انفسهم من سياسيين وروحيين بخسارته، حيث اشار مقربون من بكركي، الى ان طرح التدويل هو عملية “حث” لانتخاب رئيس للجمهورية، وهذا كان تفسيرا لبعض المراجع السياسية، الا ان المفتي الجعفري الشيخ احمد قبلان، كان اول المتصدين “للتدويل” كما “للحياد”، وهما لا يمكن الوصول اليهما دون توافق داخلي، وسبق ان طرحا منذ نشوء الكيان اللبناني وبعد استقلاله، واثناء حروبه وازماته، وشكل ذلك خلافا داخليا، لان مثل هذا الطرح له علاقة بالجغرافية السياسية، يقول مصدر سياسي، لا يتفق مع طروحات بكركي، التي فيها تناغم مع الخارج.
ودعوة البطريرك الراعي الى التدويل تبعده عن الحل العربي، الذي كان اتفاق الطائف من نتائجه، بعد سنوات من الحوار والمؤتمرات والمذكرات والوثائق، الى ان حصلت “عوربة الحل” في العام 1981، واحتفلت السفارة السعودية بمرور 33 عاما على التوقيع عليه، وكانت للراعي كلمة عبر ممثله المطران بولس مطر.
فهل التدويل نعي للحل العربي الممثل باتفاق الطائف، الذي يجب ان يستكمل تطبيقه؟