رغم دخول قرار اعتماد أسعار جديدة للاتصالات والانترنت، يومه الثاني، إلاّ أن شركتيّ الخليوي تاتش وألفا، لم تعرضا بعد البطاقات الجديدة المسبقة الدفع، بكميات كافية ليتمكّن المشتركون من تعبئة خطوطهم. فالأمل تنقّل بين يوم الجمعة 1 تموز، ثم جزئياً إلى السبت، لينقطع مع عطلة الأحد، على أن يُستأنَف يوم الاثنين المقبل. لكن ليس ذلك جوهر القضية، بل أبسطها. ففي العمق، عودة إلى نهاية العام 2021. وحينها لم تكن قضية رفع أسعار الاتصالات والانترنت قد حُسِمَت بعد. بل كانت وزارة الاتصالات “تدرس مختلف الآراء في ضوء ارتفاع أسعار المحروقات وسعر صرف الدولار، وتنظِّم اجتماعات مع شركتي الخليوي لهذه الغاية، وتعمل على تقييم أسعار دقيقة التخابر وبعض الخدمات، مع الأخذ في الاعتبار مصلحة المشترك وجودة الخدمة”، وفق ما قاله حينها وزير الاتصالات جوني القرم. وبعد نحو 6 أشهر، بدأ تطبيق الخطة التي أقرَّتها الحكومة، معلنة بواسطته إعدامَ غالبية مشتركي قطاع الاتصالات، وبمفعول رجعي، للتأكّد من الإجهاز التام عليهم.
اللعب ببطء
تأخير عرض البطاقات لم يكن صدفة. فاختيار التوقيت في الأول من تموز، مقصود. فهو يوم جمعة، وأي تغيير في الأنظمة الإلكترونية للشركتين بهدف حُسن إدارة التعديل الجديد، لن يحصل في أيام العطلة، أي يوميّ السبت والأحد. ومن يوم الجمعة حتى يوم الاثنين، سيستهلك المشتركون الجزء الأكبر من أرصدتهم القديمة، بعدما حُوِّلَت إلى دولار بسعر منصة صيرفة. فتكون الوزارة قد جفّفت البطاقات القديمة وانطلقت نحو واقع جديد.
وهذه العملية لُعِبَت ببطء وإتقان، إذ بدأ التحضير لها في شهر آذار الماضي، عندما حُوِّلَت الأرصدة الخليوية من الدولار إلى الليرة. وأنكرت الوزارة وشركتيّ الخليوي وجود حيلة خلف القرار. ليتبيّن لاحقاً أنه كان مدخلاً لإعادة دولرة الرصيد واحتسابه وفق منصة صيرفة، فيما كان يفترض الإبقاء عليه كما هو، فتستحيل سرقته عندها.
بين الدولار والليرة
تروّج وزارة الاتصالات وشركتيّ الخليوي لانخفاض الأسعار انطلاقاً من تراجعها بالدولار. فالبطاقة ذات الرصيد 22.7 دولاراً وتتضمّن تشغيل الخط لمدة 35 يوماً، بات سعرها 7.58 دولارات. وبذلك، يُخَيَّل أن الأسعار انخفضت نحو 3 أضعاف. لكن هذا الانخفاض لا يجد من يرحّب به سوى قلّة من اللبنانيين، فيما الكلفة بالنسبة للغالبية، ارتفعت نحو 5 أضعاف إذا ما نُظر للتجديد بعين الليرة. فرواتب موظفي القطاع العام ما زالت بالليرة ولم تُصَحَّح لتتناسب مع مستوى التضخّم. فيما لم تُصَحَّح أجور موظفي القطاع الخاص بالقدر الكافي. وبالتالي تبقى أسعار الاتصالات والانترنت مرتفعة بالنسبة إليهم.
وبحسبة بسيطة، فإن الموظّف أو الأجير الذي يحصّل نحو 2 مليون شهرياً، واذا افترضنا وجود هاتفين خلويين فقط لدى العائلة، سيتحتّم عليه دفع ما لا يقل عن 382 ألف ليرة لتشريج الهاتفين (7.58 دولارات للتشريجة، محتسبة وفق سعر صيرفة 25200 ليرة). وعليه دفع نحو 500 ألف ليرة للانترنت في المنزل لموزّعي الشركات الخاصة. واذا افترضنا أنه يحتاج فقط إلى صفيحتيّ بنزين شهرياً، أي لنحو مليون و300 ألف ليرة، فيجب أن يدفع شهرياً نحو 2 مليون و182 ألف ليرة. هذا ولم يحتسب الموظّف بعد، كلفة الأكل والشرب والملابس والتعليم.
ضريبة وليس كلفة
لم يكن واقع قطاع الاتصالات والانترنت قبل الانهيار أفضل حالاً من اليوم. إذ أن الأسعار كانت من الأغلى في العالم، ذلك أن “المواطن لا يدفع كلفة مقابل خدمة، بل يدفع أيضاً الضريبة بشكل غير مباشر بدلاً من رجال الأعمال ومستثمري خدمات المؤسسات العامة، وأصحاب المصارف والشركات الكبرى”، على حد توصيف رئيس جمعية المستهلكين زهير برّو، الذي يرى خلال حديث لـ”المدن”، أن “هذا الأمر هو خيار اقتصادي بالنسبة للدولة”.
وهذا الخيار يعبّر عنه وزير الاتصالات جوني القرم، إذ يرى أنه “لا يمكن للقطاع الاستمرار من دون زيادة التعرفة”. فالدولة إذاً، أخذت خيار الحفاظ على القطاع من جيوب المواطنين، وتحديداً الفقراء ومتوسّطي الدخل. فالأسعار السابقة والحالية تعكس خيار دعم التجّار وليس محتاجي الدعم، لأن “الفقير والملياردير يدفعون التعرفة نفسها، في الاتصالات والمحروقات والخبز وكافة السلع والخدمات”. برأي برّو.
وتشكّل بدعة “انتهاء صلاحية الخط”، ضريبة شهرية مبطّنة. فالخط الخليوي يُشرى لقاء كلفة ولا يُستأجَر، فلماذا تنتهي صلاحيته كل شهر إذا كانت الكلفة قد دفعت لحظة الشراء؟ وللحصول على الضريبة المبطّنة، جرى اختلاق ما يسمّى بـ”تشريج الأيام”. ومن لا يشرّج خطّه لـ30 يوماً، لتتكرّم الشركتان عليه بـ5 أيام إضافية، سيفقد الخط. علماً أن هذه البدعة غير معمول بها في معظم دول العالم، لأن الخط ملك لصاحبه الذي اشتراه. أما في لبنان، فيبقى ملكاً للشركة، والمستهلك عليه شراء الخط ذاته شهرياً.
أمام كل ما جرى، لا تضمن وزارة الاتصالات عدم حصول أزمة في تأمين المازوت للمحطات والسنترالات. ولا تجزم سهولة استيراد المعدّات وقطع الغيار بالدولار. ولذلك، فإن ضمان جودة الخدمات، أمرٌ مبهَم. وبهذا المعطى، ستستفيد الشركات على عكس زبائنها. وهي التي افتتحت طريق الربح بأن امتصَّت الأرصدة المعبّأة مسبقاً، وكفلت تسريع شراء البطاقات الجديدة لاحقاً، وضمنت على المدى البعيد تأمين مردود إضافي يغطّي تكاليفها ويؤمّن أرباحها، بغضّ النظر عن رداءة الخدمة.