في حزيران من العام 2021، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 158 الذي يسمح للمودعين الذين لديهم حسابات مصرفية مؤهلة للاستفادة منه، أي حسابات بالدولار قبل تشرين الأول 2019، إيداع 50 ألف دولار في حساب متفرّع، بحيث يستفيد صاحب الحساب على فترة 5 سنوات من سحب 400 دولار نقدي و400 دولار بالليرة اللبنانية شهرياً على أساس سعر صرف 12 ألف للدولار، قبل أن يُرفع سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة. إلا أنه وفي شهر تموز من العام 2023، عاد المركزي ليصدر تعديلاً على التعميم 158 حيث ألغى فيه سحب مبلغ الـ400 دولار بالليرة اللبنانية، في حين أبقى على السحوبات النقدية بالدولار، أي 400 دولار، للحسابات التي تعود إلى ما قبل نهاية شهر حزيران من العام 2023، مع الإشارة إلى أنّه من يريد الاستفادة من التعميم 158 ابتداءً من شهر تموز يمكنه سحب 300 دولار نقدي شهرياً.
في السياق اعتبر الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو في حديث للديار ان هذا التعديل يؤشر في الشكل على محاولة إيجابية لتقليص نسب الاقتطاع أو الهيركات على ودائع المستفيدين الذين كانوا مضطرين الى سحب جزء من ودائعهم الدولارية بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف لا يتجاوز 16% من سعر الصرف في السوق الموازية.
ووفق قانصو من الواضح أن هذا التعديل يأتي في سياق سلة إجراءات تهدف إلى تقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة من أجل ضبط سعر صرف الدولار في السوق السوداء وتأمين الاستقرار في سوق القطع قدر المستطاع، وهو إجراء إيجابي بطبيعة الحال.
ولكن في المضمون يضيف قانصو من الواضح أن تعديل التعميم 158 يحمل في طيّاته عناوين جديدة ينبغي التطرّق إليها:
- أولاً، وفق البند الثاني من المادة الأولى للتعميم 158 المعدّل، خفّض المركزي قيمة السحوبات بالدولار النقدي من 400 دولار إلى 300 دولار شهرياً بدءاً من شهر تموز، وهو ما يؤشر بطبيعة الحال إلى شحّ في سيولة الدولار لدى المركزي والمصارف لتمويل هذه السحوبات النقدية بالدولار والتي تُدفع مناصفةً بين مصرف لبنان وبين المصارف، في محاولة لتخفيض التكلفة المالية التي يتحملها الطرّفان.
حسابياً يرى قانصو ان هذا التخفيض المرتقب بقيمة 100 دولار شهرياً من شأنه أن يقلّص التكلفة الإجمالية السنوية بحدود 220 مليون دولار، إذا ما افترضنا أن عدد المستفيدين الجُدد من التعميم قد يوازي عدد المستفيدين من التعميم قبل التعديل، أي حوالى 181 ألف مودع. عليه، فإن هذا الوفر يُعدّ نظرياً عاملاً إيجابياً للتخفيف من الضغوط على احتياطيات مصرف لبنان في حال لجأ المركزي إليها لتمويل السحوبات النقدية من جهة، وللتخفيف أيضاً من تدخل المركزي والمصارف في السوق الموازية لشراء الدولارات اللازمة من أجل تمويل التعميم 158، من جهة أخرى.
- ثانياً، وفق المادة الثانية من التعميم 158 المعدّل، سمح مصرف لبنان للمصارف باستخدام السيولة التي سبق أن طلب مصرف لبنان تكوينها وفق التعميم 154 والذي ألزم المركزي فيه المصارف تكوين سيولة تشكّل 3% من حجم ودائعها بالدولار، بهدف إعادة رسملة المصارف وإعادة تكوين موجوداتها لتعزيز مكانتها المالية وقدرتها على مواجهة الأزمة المالية المستفحلة، شرط أن تعاود تكوينها بنهاية العام 2024.
من هنا يقول قانصو إن السماح للمصارف بأن تستخدم هذه الأموال كي تدفع للمودعين قد يرخي بثقله على المكانة المالية للمصارف وعلى قدرتهم على الصمود مستقبلاً ضمن أي مشروع لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. في حين أن إعادة تكوين هذه السيولة المستخدمة لإعادة تعزيز رساميلها قبل نهاية العام 2024 قد تحمل معها اندفاعة مصرفية جديدة باتجاه السوق الموازية لشراء الدولارات اللازمة، وهو ما سيعزّز من جديد الطلب على الدولار في مراحل لاحقة، ما من شأنه أن يضغط مجدداً على سعر الصرف.
- ثالثاً، لا بدّ من الإشارة إلى أن التعميم 158 قد ساهم نظرياً في زيادة الكتلة النقدية بالدولار في السوق بحيث دفعت المصارف مناصفةً مع مصرف لبنان حوالي 900 مليون دولار بين حزيران 2021 ونيسان 2023، ولكن في المقابل ارتفع سعر الصرف من حوالى 17 ألف ليرة إلى 140 ألف خلال تلك الفترة، ما يدل على أن مفاعيل ضخ الدولار في السوق تنتفي تلقائياً لا بل قد يكون لها تداعيات مقلقة مع لجوء مصرف لبنان والمصارف إلى السوق لتأمين الدولارات النقدية لتمويل التعميم 158. وهو أمر متوقع أن يستمر لا سيما في ظلّ تراجع احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية إلى ما دون 10 مليار دولار وانكماش سيولة المصارف إلى مستويات متدنية، ما يعني المزيد من الضغوط المرتقبة على الدولار في السوق الموازية وبالتالي على سعر الصرف.
بالمختصر يؤكد قانصو ان كل هذه التعاميم والاجراءات المُكلفة التي يصدرها المصرف المركزي تبقى علاجات موضعية وترقيعية لتمرير الوقت وذلك لحين الشروع في الإصلاحات الهيكلية المطلوبة وفق خطة إنقاذ اقتصادية لمعالجة الاختلالات الماكرو اقتصادية البنيوية، وإلا فإن أي معالجات موضعية كالتي تعوّدناها خلال السنوات الأخيرة من شأنها أن تُفاقم الأوضاع الاقتصادية الراهنة أو على الأقل قد تؤخر الأزمة تفادياً للارتطام الكبير، خاصةً إذا ما بقيت أركان الدولة ومؤسساتها في شللها وانحلالها دون أي حسّ بالمسؤولية أو إدراك لمدى فداحة الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان منذ نهاية العام 2019.