في عالم الديبلوماسية قول مأثور يُرتكز عليه في المهمات الصعبة وفحواه: «العقل القوي دائم الامل، ولديه إبداع ابتكار الحلول عند تفاقم الازمات المعقدة». وقد يصحّ اللجوء الى هذا المبدأ في هذه المرحلة المعقدة في الشرق الاوسط على رغم من تفاقم الحرب الدائرة في اوكرانيا وانعدام الرؤيا المستقبلية. فالمؤشرات الصادرة من لهيب معارك اوكرانيا تظهر انّ المعارك سترتفع حدتها اكثر وسط تقديرات تؤشّر الى أن الحرب تبدو طويلة وإلّا كيف نقرأ موافقة واشنطن على تسليم الجيش الاوكراني دبابات من نوع «ابرامز» بحلول فصل الخريف المقبل؟.
الاستتاج واضح وهو أن التحضيرات جارية لمعارك فصل الشتاء المقبل في العالم 2024. كذلك كيف يمكن قراءة زيارة الرئيس الصيني لموسكو واعلان اتفاقه مع نظيره الروسي على بدء حقبة جديدة من تعميق الشراكة الاستراتيجية؟ ولو انه تمّ إلحاق ذلك بأنّ هذا الاتفاق ليس موجهاً ضد اي دولة اخرى فمن الواضح انه يجري تحضير المسرح لحرب طويلة لم تستنفد أهدافها بعد، ولم تظهر بوادر التعب على الاطراف الدولية المنغمسة فيها.
وفي وقت لم تخفِ واشنطن انزعاجها من القمة الروسية ـ الصينية، بَدا انّ الهجوم المضاد الذي تُعد له كييف في فصل الربيع لن يشكّل محطة حاسمة في تاريخ هذه الحرب التي أرهقت العالم. والمشكلة ان الشرق الاوسط هو الاكثر تأثراً بتطورات هذه الحرب بعد قارة اوروبا، نظراً للتداخل الحاصل إن بسبب تأثير روسيا الكبير في سوريا، او بسبب الشراكة العسكرية القائمة بين موسكو وطهران، وخصوصا بسبب ارتباط اسعار النفط العالمية بمجرى هذه الحرب.
لكن هنالك ما هو اكثر في الشرق الاوسط، والمقصود هنا حال التعب التي اصابت كثيراً من المجتمعات بسبب خضوعها للضغوط الاقتصادية منذ سنوات عدة. والمقصود هنا ثلاث مجتمعات على وجه التحديد، هي: الايرانية والسورية واللبنانية. وان هذا العامل ساهم في الذهاب باتجاه المصالحة الايرانية ـ السعودية الى جانب عوامل اخرى تتعلق بشعور السعودية بأنها باتت مكشوفة عسكرياً بعد استهداف أمنها الحيوي بعدد كبير من الصواريخ البالستية والمسيرات الانتحارية والذي شكّل ذروتها استهداف شركة «ارامكو» النفطية العملاقة. وهذا ما دفعَ بالمراقبين الى اختصار «فلسفة» اتفاق بكين بأنه جاء وفق معادلة «الاقتصاد مقابل الامن». فالسلطات الايرانية لمست خلال المراحل الماضية مدى التعب الذي بدأ يصيب مجتمعها جرّاء تراجع سعر صرف العملة الوطنية امام الدولار، والآثار السلبية للازمة الاقتصادية على المجتمع. وخلال الاشهر الماضية ظهر انّ شريحة الشباب كانت في صلب حركة الشارع، وهي طرحت عناوين تطاوِل نقاطاً اساسية في تطبيق العقيدة الدينية كمثل خلع الحجاب، أضف الى ذلك انّ العمليات الامنية المتلاحقة التي حصلت داخل ايران أظهَرت خروقات استخباراتية وصلت الى مواقع حساسة كمثل نائب وزير الدفاع الذي تم إعدامه.
وفي المقابل، فإن التحول الكبير الذي يقوده ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ورؤيته تحت عنوان 2030 والذي يتضمّن مشروع «نيوم» العملاق، لا يبدو مضموناً وسط التحديات الامنية التي كانت تمثّلها ايران من خلال حلفائها الحوثيين في اليمن. لذلك وفي مقابل اعلان وزير المال السعودي عن استثمارات ستحصل في ايران، كانت موافقة طهران على وقف كل اشكال الدعم العسكري للحوثيين.
لكن قبل ذلك كانت البحرية الاميركية قد صادرت عدة شحنات اسلحة عبر البحر انسجاماً مع تشديد الرقابة البحرية.
وكذلك كان البنك المركزي العراقي وبطلبٍ أميركي يقوم بتقنين تحويل العملة الصعبة من العراق الى ايران.
لذلك لا يمكن عزل الزيارة التي قام بها منذ ايام امين المجلس الاعلى للامن القومي الايراني علي شمخاني الى العراق عن الاتفاق السعودي الايراني، والتي أنتجت تفاهمات تسمح للاقتصاد الايراني بالتقاط انفاسه من خلال مسألتين: الاولى تتعلق بإعادة فتح خط ضَخ العملة الصعبة الى ايران ولو وفق سقف محدد. والثانية مَنح قوات الحدود الايرانية اشرافاً على بعض المعابر الحدودية بحجة منع المسلحين من التسلل الى اراضيها، بينما الهدف الفعلي الامساك بشرايين تهريب البضائع والاموال النقدية وضمان حصة تجارية اوسع تكفل وصول العلاقات التجارية الرسمية الى اكثر من عشرة مليارات دولار سنوياً.
وعلى رغم من كل ذلك لا بد من انتظار بعض الوقت لتبيان صلابة اتفاق بكين ومدى جديته. ومنذ ايام تم التفاهم في سويسرا بين طرفي النزاع في اليمن لتبادل نحو 880 اسيراً. صحيح ان عدد اجمالي الاسرى يفوق الالفين، الا انّ نجاح هذه الخطوة سيعطي اشارة ايجابية قوية للذهاب الى تسوية سياسية لاحقاً خصوصاً انّ بين الذين ستشملهم خطوة التبادل اولاد الرئيس السابق علي عبد الله صالح وشقيق رئيس اليمن الحالي عبد ربه منصور هادي، على ان يجري انجاز المرحلة الاولى من التبادل خلال الايام العشرة المقبلة.
وعلى رغم من وضع مهلة الشهرين كفترة اختبار لاتفاق بكين الا انّ «نَسيمَه» لفحَ سوريا. فمن البديهي الاعتقاد بأن هذا الانفتاح الخليجي الحاصل في اتجاه دمشق له علاقة بالمستجدات الحاصلة على المستوى السعودي ـ الايراني.
ولو ان هذا الاحتضان الخليجي يحمل مهمة منع ايران من الاستئثار بكل النفوذ في سوريا وسط انشغال روسيا في حرب اوكرانيا وحاجتها الملحّة لشراكة عسكرية مع ايران. وتسود اجواء تفاؤلية حول عودة سوريا الى الجامعة العربية خلال اجتماعها المقبل. وتنقل اوساط ديبلوماسية اوروبية أنّ نقطتين اساسيتين يجري التفاهم حولهما مع دمشق:
الاولى، تتعلق بمعالجة ملف النازحين. ويتم التداول في طرح يقتضي بعودة نحو ألف نازح سوري موجودين الآن في الاردن بحيث تشكّل عودة هؤلاء اختباراً لناحية عدم التعرض لهم أمنياً عند عودتهم، ولناحية عدم إلزامهم بالخدمة العسكرية.
اما النقطة الثانية فتتعلق بتشديد العواصم الخليجية على حسم ملف وقف تهريب حبوب «الكابتاغون» الى دول الخليج عبر الاردن، من خلال جملة إجراءات حاسمة وفاعلة. وبالتالي ستشكّل هاتان الخطوتان اختباراً للمضي قدماً في ملف التسوية السياسية في سوريا وفتح ابواب الاستثمارات في الاقتصاد السوري المتهاوي.
وفي موازاة ذلك يدور همس عن حركة وساطة ستتولاها سلطنة عمان ما بين السعودية و»حزب الله»، لاستكمال تطبيق البند المتعلق بوقف كل انواع التعاون العسكري مع الحوثيين.
ومن المفترض ان يؤدي نجاح هذه الخطوة الى فتح ملف الازمة السياسية وكذلك الاقتصادية التي تخنق لبنان. لكن هذه المؤشرات الاولية الواعدة في سوريا ولبنان، لا تبدو كذلك على المستوى الاسرائيلي ـ الفلسطيني. فاجتماع شرم الشيخ، والذي هدفَ الى معالجة الوضع الامني على الساحة الفلسطينية، كانت غائبة عنه حركتا «حماس» و»الجهاد الاسلامي»، وهما الطرفان الرئيسيان في مواجهات الضفة الغربية ما يطرح علامات استفهام حيال جدية نجاح هذه المقررات خصوصاً انّ شهر رمضان يرفع مستوى الشحن الديني والعاطفي.
أضف الى ذلك تصاعد النزاع بين الادارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية وفي شكل علني، ما دفعَ الى استدعاء السفير الاسرائيلي في واشنطن الى وزارة الخارجية الاميركية وابلاغه توبيخاً حيال قرار العودة الى أربع مستوطنات في الضفة الغربية، وهذه خطوة نادرة وغير معتادة في تاريخ العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية. أضف الى ذلك توجيه نصيحة لنتنياهو بتأجيل زيارته لواشنطن «لأنّ الظروف غير مناسبة». وبالتالي، فإنّ اللهيب المتوقع خلال الاسابيع المقبلة على المستوى الاسرائيلي ـ الفلسطيني سيجد له تأييداً وتفهّماً على المستويين الاقليمي والدولي. أما الملفات على المستويين السوري واللبناني فما تزال في بداياتها وفي حاجة الى استكمال جس النبض، ما يعني انّ الوقت لم يحن بعد.