بعضها قديم والآخر مبتكر.. “مهن الأزمة” تزدهر في لبنان

benzine

Share to:

الحرة – حسين طليس

تشتد وطأة الأزمة الاقتصادية في لبنان يوماً تلو الآخر، وتنتج عنها عشرات الأزمات المتفرعة التي ضربت كافة قطاعات الإنتاج، إذ لم تسلم من تداعياتها أي مهنة أو عمل أو مؤسسة في البلاد.

عشرات المحال التجارية والشركات والمؤسسات والمشاريع الاستثمارية تتوقف عن العمل، وبعض المهن تندثر نهائياً، لاسيما تلك التي تقوم على الاستيراد من الخارج أو تعتمد على مواد أساسية منقطعة.

خلال تلك الظروف، ترتفع نسبة العاطلين عن العمل، حتى تجاوزت 40% من سكان البلاد وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فيما يُقدر البنك الدولي أن شخصًا من كل 5 فقد وظيفته منذ خريف 2019، وأن 61% من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل 43%.

ورغم مرارة هذا الواقع، الذي يتزامن مع ارتفاع نسب الفقر والفقر المدقع، إلا أن الأزمة اللبنانية، أنتجت من بين ما أنتجته، مهناً وأعمالاً فرضتها الحاجة في الظروف الاستثنائية التي تشهدها البلاد، وأعادت إلى السوق مهن أخرى كادت أن تنقرض، كما فتحت لعديد من الناس فرصاً جديدة وطرقا مبتكرة للعمل، تناسب الأزمة وحاجات المواطنين فيها.

هذه الأعمال والمهن، لا تمثل استغلالاً للأزمة على غرار الأسواق السوداء الناشئة، القائمة على الاحتكارات ومضاربات واستغلال معاناة الناس وحاجاتهم، مثل باعة صفائح البنزين وتجار الدواء ومحتكري المازوت، وإنما أعمال نزيهة أخلاقية لاقت رواجاً ونجحت بعدما تأقلمت مع متطلبات المرحلة الحالية في لبنان، وباتت تعين أصحابها أو بعض العاطلين عن العمل على تأمين مردود إضافي مساعد.

مهن “أزمة البنزين”

هشام، 27 عاما، مصري يعمل في لبنان بإحدى محطات البنزين في منطقة انطلياس، وجد لنفسه عملاً رديفا على هامش الأزمة، فخلال دوامه يقوم بإبلاغ الزبائن عبر خدمة الواتساب عن وصول كميات البنزين ومواعيد فتح وإغلاق المحطة، كذلك يسير أمور زبائنه وزبائن المحطة المعتادين، حيث يؤمن لهم خروجا عن الطوابير، ودخولا إلى المحطة من مداخل أخرى مخصصة لهم، ولقاء هذه “الخدمات” يتقاضى هشام مبالغ رمزية يجمعها ليعوض بها الخسارة الكبيرة التي لحقت به من جراء الانهيار المالي في لبنان، الذي حرمه من إرسال الدولارات الشهرية لعائلته في مصر.

يروي في حديثه لموقع “الحرة” كيف يجمع “20 ألف ليرة من هنا و50 ألفاً من هناك، إذ لا يوجد مبلغ ثابت للإكراميات التي أتلقاها، ولكن فوق بعضهم البعض يجمعون ما قيمته 50 إلى 100 دولار في الشهر، أضيفهم إلى الراتب الذي يبلغ مجموعه اليوم أصلاً 100 دولار لا أكثر، كي أتمكن من إعالة عائلتي”.

أما خارج الدوام فقد وجد هشام سبيلاً إضافياً في أزمة المحروقات، ليجمع عبرها ما يحتاجه من أموال، إذ بات يعمل (كمنتظر في الطوابير) عوضا عن زبائن يمنعهم ضيق وقتهم، أو وضعهم الصحي، من الانتظار الطويل في طوابير المحروقات الطويلة، وعليه يقوم هشام باستلام سياراتهم منهم مقابل بدل مالي والانتظار فيها بالطوابير لتزويدها بمادة البنزين.

وبالمرور على الطوابير، وجد البعض في تجمهر الناس أمام محطات الوقود، سوقاً يعرض فيه سلعاً للبيع، إذ بات مألوفاً للبنانيين مرور باعة جائلين بين سياراتهم، يعرضون عليهم عبوات مياه أو عصيرا باردا وألعاباً للأطفال أو زينة و”إكسسوار” للسيارات.

وتبدو هذه التجارة مزدهرة، إذ يرتفع الإقبال عليها وتزداد انتشاراً بين طوابير الانتظار، حتى باتت هي الأخرى مهنة نتجت عن الأزمة واستمرت معها.

وعلى هامش أزمة المحروقات أيضاً وتكاليف التنقل العالية، وباعتباره رمزا من رموز المدن الفقيرة، وجد الـ”توك توك” سبيله إلى شوارع بيروت وباقي المدن اللبنانية، حيث يقوم العديد من الشبان بشراء هذا النوع من آليات التنقل الموفرة للوقود مما يمكن صاحبها من تخفيض أجرة النقل على الركاب.

وتمثل أزمة التنقل اليوم واحدة من أبرز تحديات النهوض بالبلاد، إذ باتت تكاليف النقل تتبع أسعار المحروقات، وتتخطى شهريا حجم متوسط الرواتب، إضافة إلى الحد الأدنى للأجور البالغ 675 ألف ليرة، مما دفع العديد من العمال والموظفين للإضراب عن أعمالهم إلى حين البت ببدلات النقل ومعاشاتهم التي، إن بقيت على ما هي عليه، سيكون العمل في لبنان غير ذي جدوى اقتصادية.

حماية وأمن 

حنا، 35 عاما، جد لنفسه عملاً بعد سنتين من البطالة، يقوم على أزمة المحروقات، وربما سينتهي مع انتهائها، فمهمة حنا حفظ الأمن وتسيير عمل محطة وقود دون مشاكل، إضافة إلى منع أي اعتداء على المحطة.

يقول حنا “ساعدتني بنية جسدي القوية من جهة، وعلاقاتي في المنطقة والشارع الذي تقع فيه محطة البنزين، الكل يعرفني ويتفادى أي إشكال معي، لست شبّيحا ولا بلطجياً، ولكن الأمن بات سلعة مطلوبة في هذه الأوقات وانا أتاجر بها كما هي حال شركات الأمن او رجال الحماية”.

ويضيف في حديثه لموقع “الحرة” أن “القوى الأمنية لم تكن ولا هي اليوم قادرة على تأمين الحماية لجميع المحطات، فيما الناس ما عادت تهاب عنصر الأمن وتحمله مسؤولية فشل الدولة، أما نحن فأبناء الحي ومعروفون ولنا هيبتنا في الشارع ولا نفتعل إشكالات وإنما نساهم في ضبط الأمن إلى جانب القوى الأمنية وبمعرفة البلدية وشرطتها”.

وبات مع حنا فريق حماية يتكون من 5 أشخاص غيره، يتوزعون داخل المحطة وفي محيطها لضبط أي إخلال بالأمن، ومنع أي مشكلة بين الزبائن او اعتداء على العاملين.

وكان لبنان قد شهد بالفعل سلسلة احداث أمنية مسرحها محطات الوقود حيث سجل مقتل عشرات من المواطنين على المحطات ومئات الإشكالات التي شهدت إطلاق نار وتضارب بسبب المحروقات، منذ بداية الأزمة وحتى اليوم.

هذه الظاهرة باتت تنتشر في مصالح عدة في لبنان، وما عادت تقتصر على محطات المحروقات، إذ يتم استئجار شبان لحمايتها من فارضي الإتاوات ومافيات المحتكرين والمتهجمين على المحال، في ظل تراجع الأمن في البلاد بفعل اشتداد الأزمة.

عطور ومواد تنظيف بديلة

منذ بدأت الأزمة ارتفعت أسعار العطور ومساحيق مكافحة التعرق لكون جميع العلامات التجارية المعروفة والمعتمدة في لبنان تستورد من الخارج، هذا الأمر دفع بالشابة اللبنانية جوان، 26 عاما، إلى البحث عن بدائل أوفر، تكون صحية في الوقت نفسه، حيث تعلّمت خلال فترة الحجر الصحي إنتاج مساحيق منع التعرق (ديو درنت) بمكونات طبيعية وعضوية تمنح النتيجة المرجوة بعطور طبيعية ودون إضافات كيميائية.

أما الأهم فهو توفير التكلفة، إذ تبيع جوان منتجاتها بنصف تكلفة المنتجات المستوردة.

رانيا، 48 عاما، تلقت دورات عبر احدى الجمعيات في “تمكين المرأة”، تعلمت خلالها كيفية صناعة الصابون، ومع ارتفاع أسعار الصابون مثل حال كل السلع، لاسيما المستوردة منها، قررت رانيا أن تصنع الصابون البلدي لمنزلها وعائلتها، وبعد نجاح تجربتها بدأت بتلبية حاجات بعض الجيران والأصدقاء، لتنتقل بعدها إلى مواد التنظيف، حيث بحثت عبر الإنترنت وتعلمت كيفية إنتاج مواد تنظيف للجلي ومعطرات لمسح الأرض عبر استخدام مواد متوفرة بكثرة وبأسعار مقبولة في الأسواق، وبدأت أيضا بالتسويق لمنتجها الجديد الذي يلقى رواجاً واسعاً في قريتها، ما يؤمن لها مدخولا مقبولاً.

تجار وأسواق “أونلاين”

وفيما يتخلى كثير من اللبنانيين عن مصالحهم ويغلقون محالهم التجارية بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات وانخفاض نسبة البيع، وجد كثيرون الحل في افتتاح متاجر إلكترونية، لا تتطلب منهم بدلات مالية كبيرة لتسويق بضائعهم.

رشا وجدت الحل بعرض الملابس التي كانت تبيعها في محلها، عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولاقت إقبالاً أكبر مما كان في محلها، مع تكاليف أقل بكثير.

“يتطلب الأمر صبراً أكبر في التعامل مع الزبائن” وفق ما تشير رشا في حديثها لموقع “الحرة”، “فطبيعة التواصل عن بعد في عملنا ببيع الألبسة والفساتين، تفرض أخطاءً في الألوان والتطريزات والقياسات، الزبون يختار عبر صور وليس مباشرة وهنا احتمال الخطأ وعدم ملائمة الذوق أكبر، الأمر الذي يفرض علينا مرونة وتساهلا وجهدا أكبر في التواصل أونلاين، ومع ذلك العمل أنشط من المتجر، وأقل تكلفة علينا وعلى الزبون، فإيجار المحل وتكاليف الكهرباء والإنترنت والصيانة والتنظيف ورواتب الموظفين، كلها ما عادت تضاف على الأرباح مما ينعكس علينا بهامش ربح أكبر، وعلى الزبون في أسعار أرخص، وهذا المطلوب خلال هذه الأزمة”.

وعبر التسويق الإلكتروني أيضاً، نجح باسل وزوجته في بيع كافة ملابسهم المستعملة بعدما عرضوها للبيع عبر صفحة خاصة على موقع إنستغرام. يقول باسل “كان هدفنا خلال الحجر الصحي أن نتخلص من ملابس كثيرة حملناها معنا من منازل أهلنا إلى منزلنا الزوجي وما عدنا نستخدمها، نصحنا صديق بعرضها للبيع وتفاجأنا بأننا بعنا معظمها في وقت قصير، إذ بات إقبال الناس على الملابس المستعملة أكبر خلال الأزمة، لارتفاع أسعار الملابس الجديدة بشكل جنوني”.

ويتابع باسل: “بعد هذه التجربة التي تثبت لنا من خلالها أن هناك سوقا للألبسة المستعملة يحتاج فقط إلى سلع، بتنا نتوجه أسبوعيا إلى أسواق “البالة” والملابس والأحذية المستعملة في طرابلس وبيروت والضاحية الجنوبية لشراء قطع معينة وعرضها للبيع مع هامش ربح، واليوم تجارتنا باتت ناجحة نؤمن عبرها مداخيل إضافية تمكنا من الصمود”.

توصيل.. وتوفير

وبدلا من أن يزور الزبون متجر رشا، أو منزل باسل، تصل المشتريات إلى باب منزله عبر خدمة التوصيل (ديلفري) التي تلقى رواجاً واسعاً في لبنان، لاسيما بعد جائحة كورونا التي فرضت حجراً منزلياً نقل الأسواق من الشوارع إلى الهواتف، واستمر عمل شركات التوصيل بالازدهار بعد الانهيار المالي والاحتجاجات التي شهدتها البلاد وتقطيع الطرقات وإغلاق الأسواق.

هذا العمل بات اليوم مورداً لآلاف الشباب اللبنانيين والسوريين في لبنان، لاسيما العاطلين عن العمل، الذين وجدوا في خدمة التوصيل عبر دراجاتهم النارية أو السيارات الصغيرة، مصدرا للمال السهل، لاسيما خلال أزمة انقطاع المحروقات المستمرة، مما قلص من تحركات الناس في الشوارع، وبات التحرك بسياراتهم يقتصر على ما هو ضروري أو طارئ، وهو ما ثبّت خدمة “الديلفري” كضرورة في حياة اللبنانيين خلال الأزمة.

علي كان يعمل في محطة توزيع مياه شرب على المنازل في منطقة جونية، قبل الأزمة كان مدخول هذا العمل يكفيه لتحمل مصاريفه، لكن وبعد انهيار العملة، يقول علي: “ما عاد راتبي يكفيني، فما كان إلا أن استفدت من عملي في توزيع المياه على المنازل وعرضت على الزبائن توصيل كل ما يحتاجونه خلال النهار عبر التواصل معي، وبعد نحو شهر تخليت عن عملي في شركة المياه لأتفرغ للتوصيل الذي بات يعود عليّ بمردود أكبر من راتبي بنحو 3 أو 4 أضعاف”.

ويضيف “أقوم بتوصيل كل شيء حرفياً، مواد غذائية، خضراوات وفواكه، مياه وسجائر وملابس وهدايا وزهور، كل ما يمكن أن يطلب الناس توفيره أو توصيله، في بعض الأحيان أنقل أغراضاً أو حتى أموال من بيت إلى بيت، في إحدى المرات نقلت شاباً إلى منزل صديقه، لم يكن لديه وقود لينتقل بسيارته، وفي كل هذه المهمات احسب تكلفة البنزين وأتعابي مع هامش ربح قليل مقبول من كل الناس”.

مهن تعود

تعتبر صناعة الأحذية وإصلاحها من أقدم المهن المشهورة في لبنان، إذ كانت خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، منافساً معروفاً للسوق الأوروبية، إلا أن مهنة “السكاف” (صانع الأحذية) كانت قد شارفت على الانقراض واقتصرت على وجود رمزي في بعض الشوارع المشهورة بصناعة الأحذية وإصلاحها، مثل برج حمود والشياح.

يؤكد محمد ، 68 عاماً، الذي يعمل “سكافاً” في سوق الجمال بالشياح، أن مهنته انتعشت بعد الانهيار الاقتصادي حيث يلجأ الناس لإصلاح أحذيتهم بدلاً من التخلص منها عند تمزقها، لاسيما بعد ارتفاع أسعار الأحذية بشكل جنوني.

ويضيف في اتصال مع “الحرة”: “بعد انهيار الليرة باتت الأحذية تصلني من عائلات ترمم كل ما لديها، صبايا وشباب لم أكن أراهم من قبل يستدلون على محلي كي يتم إصلاح أحذيتهم.. كان هذا يفترض أن يكون أمراً طبيعياً، لكن درجت العادة في لبنان في السنوات السابقة على الاستهلاك الكبير وشراء الجديد بدلاً من التصليح.. اليوم تفرض الظروف عادات جديدة”.

الأمر نفسه مع أبو جهاد، الذي يعمل خياطاً في شارع أسعد الأسعد، هو الآخر عادت عليه الأزمة بزبائن جدد أنعشوا مهنته، بعد الغلاء الكبير في أسعار الملابس.

“كان عملي يقتصر على زبائن محددين معظمهم من كبار العمر الذين اعتادوا على العمل معي منذ زمن، وخسرت عدداً كبيرا منهم خلال السنوات الماضية”، بحسب أبو جهاد، الذي يشير إلى أن زبائن جددا، باتوا يحضرون إلى المحل، “يطلبون تضييق أو توسيع أو إصلاح ملابسهم، أو تفصيل أطقم وفساتين بقطع قماش كانت لديهم”.

يعبر أبو جهاد عن فرحة يخفيها عن وجوه الناس عند حضورهم إلى محله، “ليس لأن وضعي تحسن، فغلاء الأسعار لا يمكن اللحاق به، ولكنني سعيد بعودة مصلحتي (مهنتي) لتكون مطلوبة في السوق بعدما شارفت على الاختفاء، بات بإمكاني أن أشعر بمعنى لعملي، بعدما كان أبنائي يصرون على أن اترك لبنان وأرحل معهم إلى كندا، اليوم سأبقى في لبنان وأنا أعلم أن الناس بحاجة لخياطين في أزمتهم”.

Exit mobile version