لا شك ان لبنان منذ القدم، يُعدّ وجهة سياحية يتوافد إليها الزوار من جميع أصقاع العالم، وملتقىً للأنماط الثقافية والفنية والاجتماعية التي تتناغم كما تنسجم ألوان لوحات الفن الجميل. أما اليوم، فقد أضحى كعروسٍ كسرتها عواصف الحروب وأمواج الأزمات المتلاحقة. قطاع السياحة، الذي كان نبض الحياة الاقتصادية والثقافية للبلاد، أصبح اليوم أشبه بأطلالٍ مهملة، يتناثر فيها الركام وتعصف به المحاصصات السياسية والشرذمة الطائفية كما تعصف العواصف بالمراكب الشراعية في عرض البحر.
زيارات ميدانية توثّق صوراً موجعة!
وبينما كانت جولات «اللواء» في مناطق بيروتية معروفة مثل الجميزة، والأشرفية، وشارع مونو، وغيرها من الشوارع والمناطق التي لطالما كانت تحتضن الحركة التجارية والسياحية في لبنان، وثّقت العديد من المشاهد المؤلمة: مؤسسات تجارية ومطاعم ومقاهي أغلقت أبوابها، آخذةً معها جزءاً من روح المدينة التي كانت تنبض بالحياة وتجمع العائلات والأصدقاء. حتى في تلك الأماكن التي كانت يوما ما تعجّ بالزوار والأنوار، رصدت «اللواء»، وبأمّ العين أحياناً، كيف تراكم الذباب في الزوايا وكأنها مرآة لقصص الإغلاق القسري الطويل الذي فرضته الأزمات المتتالية، سواءً كان العدوان الإسرائيلي الأخير أو المحن الاقتصادية أو المعضلات المعيشية.
لم يكن الإغلاق مفاجئاً في ظل هذه الظروف المعقّدة، ولكن ما زاد هذا المشهد حزناً هو أن العديد من هذه المؤسسات، التي كانت يوما تحتل مكانة رفيعة في سوق السياحة المحلية والدولية، تحوّلت إلى رموز للوجع والألم. جدرانها، التي كانت شاهدة على لقاءات الأصدقاء وضحكاتهم التي ما زالت تتردد في أركانها، أصبحت تتناثر شظاياها. حيث بات الصمت السمة الأبرز لهذه الأماكن، وصارت التراكمات الصغيرة من غبار الإهمال هي الواجهة الطاغية. من بيوت الضيافة إلى المطاعم الراقية، جميعها تلتقط صدى الغياب وتراكم الخسائر في صفحاتها.
أما القطاع المطعمي تحديدا، فقد عانى بشكلٍ خاص؛ فالمطاعم التي كانت تجمع بين العراقة والتجديد، والمأكولات التي تمثل ثقافة لبنان وتجربة زواره، كانت بحاجة إلى التنفس والانتعاش بعد سلسلة من الضغوطات المستمرة. من انقطاع الكهرباء والمياه إلى الوضع الأمني الهش، أصبحت هذه المؤسسات تجد صعوبة كبيرة في الحفاظ على سير أعمالها. وإذا كانت بعض المطاعم قد نجحت في البقاء على قيد الحياة رغم كل الظروف، فإن الكثير منها تمّ إغلاقها أو توقفت عن تقديم خدماتها الأساسية بسبب الخوف من تكرار العمليات العسكرية أو بسبب الانقطاع المستمر في الإمدادات.
اللواء» أيضا، في جولاتها على الساحل اللبناني، رصدت مشهداً آخر ينطوي على رمزية قوية: شواطئ كانت تعجّ بالحياة أصبحت اليوم خاوية، كأنها جسد بلا روح. إذ كانت المطاعم على هذه السواحل يوما ما تستقبل الروّاد من كل حدب وصوب، ولكن اليوم، أصبح زوارها نادرين، والحركة فيها شبه معدومة. تلك الأماكن التي كانت مليئة بالوافدين من المغتربين والسياح العرب، أضحت تعاني من عجز تام، واحتل مكان الضجيج أصوات الصمت والخوف من المستقبل.
لم يكن هذا الوضع سوى نتيجة مباشرة للعدوان الإسرائيلي المتجدد على لبنان في السنوات الأخيرة. ففي كل مرة يمرُّ فيها لبنان بعاصفة حرب أو أزمة، تتفاقم الخسائر في هذا القطاع، الذي كان يعتبر محركا أساسيا لاقتصاد البلاد. ومع تصاعد الاضطرابات الأمنية، وتوقف معظم رحلات الطيران من والى مطار بيروت، وارتفاع الأسعار، تأثّرت السياحة بشكل غير مسبوق، حتى أن هذا القطاع بدأ يُعتبر من أكثر القطاعات المهددة بالانحدار، في وقت كان يفترض أن يكون فيه ركيزة للنهوض بالاقتصاد اللبناني.
تداعيات الحرب على القطاع المطعمي «مرعبة»!
لقد أصبحت المؤسسات السياحية في لبنان، بما في ذلك المطاعم والملاهي، ضحية لهجمة متعددة الجبهات: الاعتداءات العسكرية والأزمات الاقتصادية والسياسية، جعلت من القطاع السياحي مرآةً تعكس أوجاع الوطن وتاريخه المتقطع. بعد تدمير الكثير من المؤسسات السياحية جراء الحرب الإسرائيلية، يقول نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري، خالد نزهة، لـ «اللواء»، إن القطاع السياحي، وبخاصة قطاع المطاعم، كان الأكثر تضرراً من تداعيات الملحمة الشعواء التي تعرّض لها لبنان. وقد كانت الوحشية الإسرائيلية والضربات الهمجية على مدار الساعة، والتي طالت مناطق واسعة من بيروت والبقاع والجنوب، وكان لهذا القصف العنيف وقع صعب جداً».
ويضيف، «ففي صور والنبطية والساحل وصولاً إلى الناقورة، بما في ذلك القرى والبلدات بأكملها، تشير الأرقام إلى تضرر عدد ضخم من المطاعم، حيث تراوحت الأضرار بين الكلي والجزئي، وقد دُمرت معظم المؤسسات في هذه المناطق. كما أن مؤسسات عديدة في البقاع، على الطرقات وحتى حدود الهرمل، قد دُمرت أيضاً. أما في الضاحية الجنوبية لبيروت، فقد كانت الأضرار مهولة، وتأثرت بشدة، حيث شهد شارع بدارو وضعاً يُرثى له نظراً لقربه من الضاحية الجنوبية. ولم يكن الوضع في بيروت أفضل، حيث تراجع العمل إلى حدود 80%، وكانت هناك محلات تفتح دون عمل حقيقي، وقد امتد هذا التأثير ليشمل مناطق مثل شارع مونو، الأشرفية، الجميزة والوسط التجاري».
تعطيل وتهجير وإغلاق!
ويشير إلى أن «الحرب لم تقتصر على المناطق القريبة من خطوط التماس، بل طالت مناطق بعيدة مثل الشمال، رغم أن ساحل المتن سجّل نشاطاً خجولاً، وقد شهدت كسروان نوعاً من النشاط بسبب النزوح الذي زاد الكثافة السكانية في بعض مناطقها، ما أسهم في تشغيل مؤسساتها. وعلى الرغم من ذلك، فان المحلات التي لم تتضرر في المناطق المستهدفة، أقفلت قسراً لأن الوصول إليها كان مستحيلاً. وقد أثر هذا الأمر بشكل كبير في المناطق الساحلية والجبلية، حيث تسببت هذه الحرب في شلل تام للمؤسسات، بما فيها الواقعة على الشاطئ».
ويتابع «رغم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين، والاقتراب من موسم الأعياد، إلّا أن الظروف كانت غير مواتية لاستقطاب الزوار من الخارج، حيث علقت شركات الطيران رحلاتها إلى لبنان باستثناء عدد محدود. وأدّى هذا إلى ارتفاع أسعار التذاكر بسبب قلّة العرض وكثرة الطلب. كما أن الوضع الأمني، لا سيما تحليق الطائرات المسيّرة فوق بيروت، أثر سلباً في تقييد تدفق السياح. وبالتالي، تراجعت الانشطة السياحية إلى حد كبير، حيث كانت الحركة خلال فترة الأعياد أقل بنسبة 55% مقارنة بالعام 2023».
ويكشف نزهة أن «لبنان يعتمد بشكل كبير على استجمام المغتربين، خصوصاً اللبنانيين القادمين من دول الخليج والعالم، الذين يسهمون في تحريك قطاع المطاعم والسهر. لكن المواطنين المقيمين في لبنان، في ظل الأزمة الاقتصادية، لم يعد بإمكانهم دفع تكاليف الذهاب إلى المطاعم، حيث أصبحت زيارة المطاعم بالنسبة لهم نوعاً من الكماليات، خاصة لأولئك الذين فقدوا أموالهم في المصارف. ويبيّن أن نسبة قليلة فقط، لا تتجاوز 6% من المواطنين، لا يزالون قادرين على الخروج والتمتع بالحياة الليلية».
ويشرح أن «القطاع السياحي يحتاج إلى استقرار أمني، سياسي واقتصادي. فلبنان مرّ بأزمات متعددة خلال السنوات الخمس الماضية، بدءاً بالأزمة النقدية وانهيار العملة الوطنية، مروراً بجائحة كورونا، وصولاً إلى حرب 2023 التي شهدت أشرس أنواع الاعتداءات على مدى شهرين. ورغم ذلك، تحسن الوضع في بيروت والمناطق التي كانت الحركة فيها مشلولة بعد فتح أبواب المؤسسات، حيث بدأ الناس يستعدون لاستقبال الأعياد».
ويفصح عن «ان الأعياد كانت بمثابة بارقة أمل وجرعة من الدعم النفسي، حيث أظهرت المؤسسات قدرتها على الصمود والتمسك بأمل الاستمرار. ورغم أن الدورة السياحية لم تكن على قدر التطلعات، إلا أن السياحة الداخلية كانت هي الخيار البديل. وعليه، يعتبر نزهة أن لبنان يمتلك كافة المقومات لتحقيق سياحة مستدامة على مدار العام، بما في ذلك السياحة البحرية وانشاء مطار للسياحة الجماعية».
الرئيس أعاد الحياة للقطاع!
وفيما يتعلق بالوضع السياسي، يؤكد أن «انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة يعكسان تحوّلاً إيجابياً للبنان. ورغم التحديات التي لا يزال يواجهها البلد، إلّا أن هذه النقلة تُعدّ خطوة هامة نحو استعادة الاستقرار السياسي. كما أن السياحة في لبنان ستستفيد من ذلك، حيث يتطلّع الجميع الى عودة المغتربين والسياحة العربية، خصوصاً من دول الخليج مثل الإمارات وقطر والسعودية والكويت والبحرين».
لبنان يمتلك قدرات ومقومات فريدة.. فهل يحافظ عليه المسؤولون؟
ويختم نزهة حديثه بالتنويه الى ان « القطاع السياحي يعوّل على الإخوة العرب بشكل خاص، لأن مدة إقامتهم في لبنان تكون أطول، والمبالغ التي ينفقونها أكبر مقارنة بالسياح الأجانب. وذكر أن لبنان بحاجة إلى جهود كبيرة لتطوير بنيته التحتية، بدءاً من توفير الكهرباء، المياه، ووسائل النقل الحديثة مثل القطارات، المترو، أو الحافلات. كما أن لبنان يمتلك قلاعاً تاريخية ويشتهر بمجموعة واسعة من أنواع السياحة، بما في ذلك السياحة الطبية، التزلج، سياحة الأعراس، الفاشن شو، والتعليمية، مما يتيح له إمكانيات كبيرة لتحقيق النمو في هذا القطاع».