في قلب لبنان، حيث تتداخل جراح الماضي مع تحديات الحاضر، يظل السؤال قائماً: إلى أين يتجه لبنان في ظل الأزمة البيئية المستمرة التي ترخي بظلالها على كل زاوية؟ فمن جانب، نجد أن نفايات المدن تتراكم على قوارع الطرقات بلا حلول فعّالة، وعلى جانب آخر، تواجه البلاد تهديداً بيئياً من نوع آخر، وهو الردم الناتج من الدمار الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. نفايات الحرب، التي باتت تتجذّر في العديد من المناطق مثل الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب، ليست مجرد بقايا هياكل مدمرة، بل هي قنبلة موقوتة تهدّد البيئة والصحة العامة.
انطلاقا من كل ما تقدّم، أصبح الردم، الناجم عن الحرب، جزءاً لا يتجزأ من معضلة النفايات المستفحلة في لبنان. فكما سبق وأن طرحت «اللواء» موضوع المطامر وحلول النفايات، فإن الحديث عن الركام ليس أقل إلحاحاً. فالتراكمات الناجمة عن الحرب ليست مجرد بقايا حجرية وحديدية، بل هي تهديد بيئي يزداد تعقيداً، سواء من حيث تأثيرها على التربة أو الحياة البحرية أو جودة الهواء.
في ضوء هذه المعطيات، فان الأسئلة التي نطرحها اليوم، في ظل هذا الواقع المعقّد، لا تقتصر على ما إذا كان بالإمكان التخلّص من هذه الأنقاض، بل تتجاوز ذلك نحو تساؤلات أعمق: كيف يمكن تحويل هذه الأنقاض إلى فرصة للإعمار؟ وهل هناك دراسات علمية تكشف حجم تداعيات هذه النفايات على البيئة؟
من هنا، تشكّل هذه الاستفسارات محور الحوار مع اختصاصيين في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث نسعى إلى سبر أغوار هذا التحدّي البيئي الذي يواجهه لبنان.
نهج دائري لتحويل الركام إلى موارد: فوائد اقتصادية وبيئية في آنٍ معاً
وفي هذا السياق، يوضح أنطوان كلّاب، اختصاصي في إعادة الإعمار والسياسات العامة، ونائب مدير مركز حماية الطبيعة، وآية قصقص الباحثة البيئية في المركز نفسه في الجامعة الأميركية في بيروت لـ «اللواء»: «انه يمكن الاستفادة من هذا الردم عبر تبنّي نهج دائري لإدارة مخلّفات البناء والهدم. فمن الممكن استخلاص قيمة من الحطام عبر إعادة إدخال المواد المعاد استخدامها في دورة الإنتاج. يعزّز هذا النهج الاستفادة من الموارد ويحقق مكاسب اقتصادية. وفي نهاية المطاف، يتيح إعادة دمج مخلفات البناء والهدم المعاد استخدامها بسلاسة في سلسلة القيمة الأصلية الخاصة بها عن طريق مواد البناء، مثل كتل الطوب المعتمدة في البناء أو الحجارة المخصصة لإنشاء الطرق. كما يمكن استعمال العناصر غير القابلة لإعادة التدوير في إعادة تأهيل مقالع الحجارة، بغية التعويض عن الأضرار الناجمة عن استخدامها في العقود الماضية. ويساهم صون النظام الإيكولوجي في توليد مؤثرات خارجية إيجابية من خلال تحقيق نتائج أفضل في مجالات الصحة والسياحة والاقتصاد والمجتمع والتنوّع البيولوجي».
العواقب الصحية من مخلّفات البناء والهدم بعد النزاعات
ويشدّد الاختصاصيان على انه «من دون إدارة سليمة، قد تؤدي التأثيرات البيئية السلبية الى عواقب وخيمة على الصحة. فمن بين المواد الخطرة التي تنتشر أحياناً في مخلفات البناء والهدم بعد النزاعات «الأسبستوس»، وهي مادة مسرطنة موجودة في الأنابيب القديمة، ويمكن أن تُطلق في الهواء على شكل جزيئات دقيقة، ما يؤدي إلى أمراض خطرة تصيب الجهاز التنفسي وتزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان. كذلك، يتسرّب «الليثيوم»، في حال التعامل السيئ معه، من البطاريات الشمسية إلى التربة والمياه الجوفية، ملوثاً مصادر مياه الشرب ومسبباً مجموعة واسعة من الأمراض الخطرة التي قد تؤثّر أيضاً في الصحة الإنجابية. كما يمكن أن تتراكم المعادن الثقيلة الناتجة من الطلاء، والأجهزة الإلكترونية والذخائر، والأجهزة في البيئة، مخلّفة تأثيرات عصبية سامة وقد تؤدي الى تلف الأعضاء لدى البشر. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تسبب بقايا قذائف الفسفور الأبيض حروقاً ومشكلات تنفسية، بل وحتى الوفاة عند التعرّض لها».
التحدّيات البيئية المترتبة من دفن النفايات في لبنان
ويبيّن الاختصاصيان ان «التأثيرات السلبية لهذا الردم تنعكس على البيئة والحياة البحرية في لبنان من خلال عدة جوانب رئيسية، أبرزها:- تلوث التربة واضطراب النظام الإيكولوجي نتيجة التسربات.- تضرر البنية التحتية وزيادة خطر الفيضانات بسبب التخلص العشوائي من النفايات.- تلطخ المياه الجوفية ومستودعاتها جراء المخاطر الكيميائية.- إطلاق السموم بطريقة تؤذي الحياة المائية والشعاب المرجانية.- تدمير الموائل الطبيعية وتدهور التنوّع البيولوجي، بما يهدّد القطاع الزراعي والأمن الغذائي.- ارتفاع الطلب على استخراج المواد الخام (من مقالع الأحجار)، ما يؤدي إلى تشويه المناظر الطبيعية التي تدعم التراث الطبيعي وقطاع السياحة.تدهور نوعية الهواء بسبب الرمال والغبار والجسيمات المنبعثة من الأنقاض المتناثرة ونفايات البناء والهدم المنتشرة في الغلاف الجوي.- تزايد انبعاثات غازات الدفيئة من مكبات القمامة، ما يفاقم أزمة تغيّر المناخ».
في الخلاصة، إن فتح موضوعات شائكة ومؤثرة في حياة المواطن اللبناني ليس مجرد جهد صحافي عابر، بل هو خطوة أساسية نحو إثارة الوعي العام وتحفيز الحوار حول القضايا التي تنعكس بشكل مباشر على صحة الإنسان وبيئته. وليس من المستغرب أن تتبنّى «اللواء» طرح ملفات بيئية واجتماعية معقّدة تتعلق بمخلفات الحرب، التلوث البيئي، والنفايات، ذلك لأن الصحة العامة، كما أظهرت الدراسات والتقارير، باتت تحت تهديد مستمر في لبنان. إن ترك هذه القضايا دون معالجة أو متابعة يعني الإبقاء على معاناة الشعب اللبناني وتفاقم الأزمات البيئية والصحية بشكل أكبر.
فمن خلال تسليط الضوء على تأثيرات الردم والنفايات الناتجة من الحروب، لا تكتفي «اللواء» بتقديم نظرة موضوعية وتحليلية لما يحدث على الأرض، بل تفتح أمام الجمهور قنوات جديدة للحوار مع الاختصاصيين والمسؤولين حول الحلول الممكنة. انها دعوة الى العمل، لأن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر دون معالجة فعلية. فكيف يمكن للبيئة أن تتحمّل المزيد من التلوث؟ وكيف للصحة العامة أن تبقى بمنأى عن التهديدات المستمرة الناجمة عن المواد السامة والمركبات الخطرة؟
لذا، لا بد من الاستمرار في نشر الوعي حول المسائل التي تهمّ اللبنانيين. ليس بهدف عرض الأخبار، بل لكشف النقاب عن موضوعات قد يغفلها البغض أو يتجاهلها أصحاب القرارات. فالتقارير المتواصلة حول قضايا الصحة والبيئة هي بمثابة صوت للمواطن، تنبّهه إلى المخاطر المتزايدة، وتحثّه على التحرك قبل فوات الأوان.
باختصار، ما تفعله «اللواء» هو أنها تبقى على اتصال مع هموم المواطن اللبناني، وتحاول أن تفتح النقاشات حول ما قد يهدّد حياته وصحته، وتؤكد على أهمية الحلول المستدامة. فهي ليست مجرد جريدة، بل هي منصة تعكس الواقع وتسعى إلى تغييره نحو الأفضل. لذلك، لا بد من أن تبقى هذه المواضيع حيّة ومثارة، فالوقت لم يعد يسمح بتأجيل الحلول، والصحة العامة، والأمن البيئي، والعيش الكريم، مسؤولية على الجميع.