لا شك ان واقع السجون في لبنان اليوم بات لا يطاق، وهو شهادة حيّة على إهمال الدولة وتجاهلها للقيم الإنسانية الأساسية. لم يعد الحديث مجرد نقل لقصص معزولة، بل تحول إلى صدمة بصرية تكشف حجم المعاناة اليومية للسجناء من خلال الصور المتداولة على المنصات الاجتماعية. لذا، صار القطاع السجني بيئة قاتلة: جدران متفحمة بالبكتيريا، زوايا تنبعث منها الروائح النتنة، وحشرات تزحف على كل شيء، بما في ذلك الطعام الذي يُقدّم لهؤلاء البشر، الى جانب تفشي الامراض الشرسة كالسل والكوليرا والجرب وغيرها من العلل الخطرة.
في مقابل ذلك، يثير الحديث عن الطعام في هذه الاماكن السخرية من الإنسانية نفسها؛ فالحيوان نفسه لا يمكن أن يُقدّم له ما يُقدّم للنزلاء: وجبات ملوثة ومعدّة في ظروف تنفر أي كائن حي. كل لقمة هنا ملطّخة بالقذارة والعدوى، وكل يوم يمضي خلف القضبان يضاعف من الإذلال والمعاناة.
من هنا، هذه الحقيقة الصادمة ليست مجرد إحصائيات أو أرقام على الورق، بل حياة مقطوعة من الكرامة، وهي صرخة مكتومة لم تُسمع بعد من المسؤولين. الزنازين ليست مجرد أماكن احتجاز، بل مرايا لقسوة تجاه الإنسان ولامبالاة كاملة بالحقوق الأساسية، وتعكس صراحة انهيار منظومة العدالة الاجتماعية والإنسانية.
ما هو السل؟
في سياق متصل، وبعد المعلومات التي وصلت الى “الديار” حول انتشار السل في السجون اللبنانية، يعرفه مصدر طبي في أحد المستشفيات الجامعية الكبرى في بيروت بانه “مرض معد يصاب به الشخص نتيجة العدوى ببكتيريا تسمى “Mycobacterium tuberculosis”، والتي تهاجم الرئتين، وقد تصيب أجزاء أخرى بالجسم منها الكلى، الدماغ والحبل الشوكي. وينصح بتطبيق استراتيجيات شاملة تشمل فحص السجناء الجدد وتوفير بيئة صحية جيدة التهوية وعزل الحالات النشطة، وتوفير العلاج الفوري للمصابين، والاهم التوعية بالنظافة الشخصية مثل تغطية الفم عند السعال، وغسل الايدي، والالتزام بالجرعات الدوائية والتطعيم”.
ويشدد المصدر الطبي على “أهمية الكشف المبكر، الفحص الدوري، العزل، متابعة العلاج، تحسين البيئة المعيشية، والوعي بحماية الصحة العامة. ويستطرد قائلا: الموضوع دقيق ومتشعب ولهذا فقط سلطت الضوء عليه بشكل مختصر”.
دروب الإنسانية بعيدة جدا عن زنزاناتنا؟
وفي هذا الإطار، يقول والد أحد المحتجزين لـ “الديار”: “ما يُقدّم للسجناء ليس طعاما، بل مادة تملؤها الجراثيم والسوس، وكأن الدولة تختبر قدرة الموقوفين على البقاء وسط بيئة شديدة القسوة. فكل لقمة تُبتلع في هذه الظروف تحمل المرض والهوان، وكل يوم يمضي خلف القضبان يزيد من الإهانة، والوجع النفسي والجسدي لأبنائنا”.ويضيف: “السجون اللبنانية اليوم صرخة مكتومة للإنسانية نفسها، شاهدة على انهيار الدولة ولامبالاة المسؤولين. ما يحدث هناك ليس مجرد تقصير إداري، بل جريمة مستمرة ضد البشر، تُسجّل على جدرانها الصدئة والأرضيات المتعفنة، وتكشف الوجه القاسي، لواقعنا الاجتماعي والسياسي”.
لواء العدل لا يُطبق على المحبوسين؟
من جهتها، تؤكد الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس لـ “الديار” ان: “السجون في لبنان ليست فشلاً إدارياً ولا خللاً عابراً، بل جريمة مكتملة الأركان تُرتكب يومياً ضد بشر تُسلب منهم إنسانيتهم قبل حريتهم. اذ ما يحصل داخلها ليس عقوبة قانونية، بل إذلال يومي، سحق نفسي وجسدي، وتجريد كامل من الكرامة. الدولة اللبنانية، بمؤسساتها وأجهزتها، تعرف هذا الواقع وتراه وتختار الصمت، وهذا الصمت ليس عجزاً، بل تواطؤ. كل يوم يمرّ على هذا الشكل هو وصمة عار إضافية على جبين نظام يدّعي العدالة بينما يدفن البشر أحياء خلف القضبان”.
وتبين ان: “السجون اللبنانية اليوم مرآة لانهيار أخلاقي كامل: إنسان يُعامل كفضلات، حياة تُدار بلا أي قيمة، وكرامة تُسحق تحت أقدام الإهمال والفساد”.
السجن مقبرة الأبرياء والمذنبين على حد سواء.. ألم يحن دور القسط؟
في جميع الاحوال، سنضع جانباً المحاكمات، وإخلاءات السبيل، وتطبيق القانون، وحتى أولئك الذين انتهت محكوميتهم أو ينتظرون جلسات لم تُعقد، والذين يقبعون بلا ذنب حقيقي، عشرات الأبرياء المحرومين من أي فرصة للعدالة. لن نغطي الآن هذه الأمور، بل سننتقل مباشرة إلى الأقصى، إلى الأدهى، إلى الأكثر قسوة: تفشي الأمراض داخل السجون.
وبحسب معلومات “الديار”، يتحول مبنى الأحداث إلى بؤرة معدية، حيث تنتشر الأمراض بين النزلاء كما لو كانت جزءاً من البيئة الطبيعية، بدون أي رعاية أو إجراءات وقائية. وبالفعل، وصلت الأمور إلى حد وفاة أحد السجناء هناك واصابة أربعة اخرين، في ظل ظروف مميتة لا تُطاق، وسط إهمال كامل من المسؤولين. ما يحدث ليس مجرد إهمال صحي، بل موت محتوم مسبقاً، وتفشي العدوى بين البشر كما لو كانوا مجرد أرقام تُسجل على أوراق رسمية بلا أي قيمة حقيقية.
إشارة الى ان السجين م.أ البالغ من العمر 31 عاما قد توفي قبل ساعات ليرتفع عدد السجناء الذين توفوا في السجون اللبنانية مؤخرا الى نحو 6 بينهم قاصر.بدوره، يوضح مصدر أمني رفيع المستوى لـ «الديار» أن: “السجين الذي توفي قبل ساعات لم تكن وفاته ناتجة من إصابته بفيروس السل، بل بفيروس آخر، وقد جرى نقله على وجه السرعة وإيجاد سرير له في المستشفى لمتابعة وضعه، إلا أن مناعته الضعيفة أدت إلى تدهور وضعه الصحي، كاشفًا أن الجهات المختصة طلبت تشريح الجثة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة، إلا أن ذوي المتوفى رفضوا ذلك. كما يؤكد المصدر أن الإصابات الأربع المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا علاقة لها بمرض السل، ولا يوجد أي انتشار لهذا الفيروس داخل السجون”.
المأساة مستمرة على مرأى الجميع
من جانبها، تكشف المحامية ماريانا برو لـ “الديار” عن واقع مأسوي يعيشه السجناء في لبنان، مؤكدّة أن الوضع في سجون الدولة لا يقل فظاعة عن بعض السجون في الخارج، مثل صيدنايا. وتشير الى إن وفاة سجين جديد نتيجة مرض السل في مبنى الأحداث ليست سوى بداية سلسلة كارثية، في وقت تتفشى فيه الكوليرا في سجن رومية منذ فترة طويلة”.وتضيف: ” إن هذه الحالات تثبّت إهمال الدولة المتواصل وغياب أي رقابة فعلية، مشيرة إلى أن السجناء يدخلون بصحة جيدة، لكنهم يخرجون محمّلين بالأمراض الفتاكة، بما فيها السرطان، السل، الكوليرا وأمراض معدية أخرى. كما أن هناك سجناء ينازعون على شفير الموت بلا أي تدخل طبي، بينما المسؤولون يغضون الطرف”.
وتتابع: “يتفاقم الوضع بسبب ضعف تطبيق القانون، إذ لم يتم خفض العقوبات أو تطبيق المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. وتبدو صورة المسؤولين السياسيين، في هذه الأزمة غائبة تماماً، من وزراء ونواب وجمعيات مدنية، بعضهم يتقاضى أموالاً باسم السجون لكنهم لا يقدمون أي حلول حقيقية”.
وتشير في الختام الى: “أن اقتراحات وزير العدل لم تحسّن الوضع، بل كانت وسيلة لإسكات المجتمع المدني، وأن وزير الداخلية ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مغيّبون عن معالجة الأزمة. يطرح هذا الواقع تساؤلات خطرة حول حقوق الإنسان في لبنان وفعالية أجهزة الدولة في حماية السجناء، ويبرز أزمة صحية وإنسانية تتطلب تحركاً فورياً قبل أن تتصاعد الكارثة”.


