“الحوار قائم صدقّوني”. لتلك الكلمة مآثر كثيرة في قاموس السياسة اللبنانية. دعوة اللبنانيين لتصديقه، له أكثر من معنى، خصوصاً لدى الغوص في شخصية القائل. وهو هنا رئيس مجلس النواب نبيه برّي. يمكن أن تتعدد صور الرجل. لكل صورة تصور مختلف. صورته بربطة عنق ذات اللون الأخضر تشير إلى الظهور بمظهر رئيس حركة أمل. والصورة الأخرى بربطة عنق زرقاء داكنة، يريد الرجل فيها أن يظهر رجلاً للحوار والتشاور وإدارة المؤسسات الدستورية. من بين الصور أيضاً، يمكن التقاط ثلاث، واحدة ما قبل 17 تشرين، وأخرى في أعقابها، وثالثة في وصفه بات “بطريركاً” للسياسة والتشريع والسلطة التنفيذية.
إلا كسر الفرنسيين
عندما يقول نبيه برّي إن الحوار قائم، فهو يشير إلى الجميع بأنهم يضطرون للعودة إليه. وهو الداعي الأول إلى هذا الحوار للوصول إلى تفاهم، فيما رفضه آخرون داخل لبنان. كما أنه رفض من قبل الدول الخمس التي اجتمعت في الدوحة. عملياً تغيرت تسمية الحوار إلى “مشاورات مكثفة” أو ورشة عمل تفضي إلى فتح المجلس النيابي، وإبقاء الجلسات مفتوحة بانتظار انتخاب الرئيس. أما من يتخلّف أو يعرقل فسيكون عرضة للعقوبات.
في كل الأحوال أصبح هذا الكلام مستهلكاً إلى حدود بعيدة وخصوصاً من قبل الفرنسيين. الأهم تبقى صورة نبيه برّي، الذي بتشديده على الحوار يريد تحقيق نقطتين، الأولى أن يعيد الجميع إليه. والثانية أن لا يكون الفرنسيون قد كُسروا في لبنان، خصوصاً أن أي انكسار لهم سيعني تجاوز الغاية من الحوار التي يريدها جزء من الأفرقاء اللبنانيين.
ما بعد 17 تشرين
ما قبل 17 تشرين، لعب نبيه بري دوراً توفيقياً بين قوى متعددة، كانت قد اعترضت على أداء ميشال عون وسياسته. يتهمه خصومه بأنه أحد أبرز معرقلي عهد عون. فيما حلفاؤه يشكرون له وجوده، فلولاه لكانت وقائع كثيرة قد فرضت. ما بعد ثورة تشرين، ارتدى برّي ربطة العنق الخضراء، في رمزية تشير إلى حركة أمل، وربما إلى “أيام بربور” (زمن الحرب). يريد الرجل الإثبات للجميع بأنه خرج أقوى، فهو الذي يقود البلاد، في حكومتها وبرلمانها، وفي رئاستها الشاغرة ما بعد الشغور. ليس تفصيلاً أن يبدأ مسؤول فرنسي زيارته إلى لبنان بلقاء برّي ويختتمها باللقاء معه مجدداً. إثبات القوة، هو محط تنافس بين برّي وباسيل، الذي أيضاً جهد كثيراً لتجاوز لكمات 17 تشرين، وذهب بعيداً في تجاوزها.
من آليات تجاوز تداعيات الثورة، هو أن يبدي برّي تمسكاً وتشبثاً بترشيح سليمان فرنجية، يفرض ما يريده في سياسة المصرف المركزي، ويتجاوز في أكثر من محطة رئاسة الحكومة، ليبدو وكأنه فارضاً لأجندتها أو جداول اعمال جلساتها، وهو ما حصل منذ حادثة “الساعة” إلى الإعلان عن تحديد موعد انعقاد جلسة للبحث في تعيين حاكم للمصرف المركزي. كان برّي يبيع الجميع من كيسهم، على قاعدة أنهم سيعودون كلهم إليه، أي إلى وسيم منصوري، وبذلك سيكون هو صاحب الفضل بارتضاء ذلك.
الربح والخسارة
تقدّم رئيس مجلس النواب عرّابي الساعين إلى تعيين حاكم جديد، وهو أمر رفضه حزب الله متلقفاً فرصة مررها له برّي في استقطاب التيار الوطني الحرّ أكثر. كان برّي على علم بأن الجلسة لن تعقد والتعيين لن يتم، لكنه اختار أن يخسر في الشكل ويربح في المضمون. برّي من الأشخاص الذين يعرفون جيداً متى يربح وكيف يخسر، ويختار لنفسه تحديد الخسارة. في الخسارة هنا مراكمة في رصيد فرنجية أيضاً. إذ أن ما جرى ينطوي على تطور مهم في العلاقة بين برّي وحزب الله. هي المرة الأولى التي يفترق فيها الطرفان على هذا النحو من الوضوح والعلنية في أمور داخلية. تلك هي دفعة على الحساب من قبل الحزب، وقد انضم إلى تلك الدفعة تيار المردة ورئيسه سليمان فرنجية، الذي أيضاً انتفض مسيحياً بمقاطعة وزرائه للجلسة. وهو تسليف للقوى المسيحية بأنه لا يخرج منها، كما أن أي تفاوض على رئاسته لا بد أن يكون ضمن سلّة شاملة تشمل حاكم المصرف المركزي وقيادة الجيش وغيرهما.
ربطة العنق الزرقاء، قد ترمز لدى برّي إلى أحد ألوان علم فرنسا، فرنسا التي أعادها إليه ويستعيدها. في الحوار وفي الانتظار. انتظار الخريف في أيلول. فبرّي ينتظر وكأنه في مقتبل العمر، وهو الرافض أن يؤول خريفه إلى شتاء وسبات.