مع تحوّل الاقتصاد الى اقتصاد نقدي يعتمد بمعظمه على السيولة النقدية، مستغنياً تدريجياً عن القطاع المصرفي في التعاملات التجارية الداخلية، بدأت الدولة بدورها تتبع هذا النهج بسبب حاجتها للسيولة النقدية بالليرة لتعزيز ايرادات الخزينة، وثانياً لمساعدة مصرف لبنان في سحب السيولة النقدية بالليرة من السوق والتي تزايدت مؤخراً مع رفع سعر صرف السحوبات المصرفية من 8 آلاف الى 15 ألف ليرة، بالاضافة، ثالثاً، الى تقليص الدولة قدر المستطاع اعتمادها على مصرف لبنان لتغطية عجزها المالي في الموازنة من خلال طباعة العملة.
بدء التحصيل
لذلك، قررت وزارة المالية ان تستوفي بدءاً من 15 شباط الحالي (امس) قيمة الرسوم والضرائب على بعض السلع المستوردة نقداً بنسبة 75 في المئة، بعدما كانت تتقاضاها عبر شيكات مصرفية بنسبة 100 في المئة. ولكن مع تراجع ايرادات الخزينة، بحسب وزير المالية، من متوسط 21% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2021، قررت وزارة المالية، “من اجل تعزيز الايرادات النقدية للخزينة وتمكين ادارة السيولة وتأمين استقرار مالي ونقدي، استيفاء جزء من الضرائب والرسوم الجمركية نقداً على بعض السلع المحددة. وعمّمت في هذا السياق على المديرية العامة للجمارك، “استيفاء الرسوم والضرائب عند الاستيراد اي الرسوم الجمركية كافة بما فيها الرسوم النسبية والرسوم النوعية والحدّ الادنى، ورسوم الاستهلاك ورسم الـ3% والضريبة على القيمة المضافة، على المحروقات بكافة انواعها، وعلى السيارات السياحية الجديدة والمستعملة وعلى الاجهزة الخلوية، بنسبة 75% نقداً بالحد الادنى، و25% بموجب شيك مصرفي”. وعلّلت وزارة المالية قرارها بأن الشركات المستوردة للنفط والمحروقات والغاز، وتجار السيارات والاجهزة الخلوية يستوفون ثمن مبيعاتهم نقداً من المستهلكين وليس من خلال البطاقات المصرفية.
وطلبت وزارة المالية، من اجل تسهيل استفياء الجزء النقدي من الرسوم والضرائب عند الاستيراد، ان يسدد المكلف هذا الجزء حصراً لدى صناديق مصرف لبنان في كافة فروعه، على ان تودع تلك المبالغ النقدية في حساب وزارة المالية بالليرة لدى مصرف لبنان.
نحو 100%؟
قد يمهّد هذا القرار للتوجّه في الفترة المقبلة نحو استيفاء الرسوم والضرائب على كافة السلع المستوردة نقداً بنسبة 100 في المئة، ومن ثم الى استفياء الرسوم والضرائب على سلع محددة بالدولار بذريعة ان مبيعات تلك السلع تتم بالدولار، وهو الامر غير المستبعد بعد مطالبة محطات الوقود امس باصدار جدول تركيب اسعار المحروقات بالدولار، وبذريعة ان “انخفاض قيمة العملة، وتعدد أسعار الصرف السارية في الاقتصاد اليوم، تؤدي إلى خسائر كبيرة في إيرادات الخزينة”، وفقاً لما صرّح به وزير المالية منذ يومين في دبي.
إهانة للمصارف
واعتبر المصرفي محمد فحيلي في هذا الاطار، ان قرار وزارة المالية استيفاء الرسوم والضرائب نقداً هو “بمثابة اهانة للقطاع المصرفي، وكما ان وزير المال يقول بطريقة غير مباشرة ان وسائل الدفع المتاحة من خلال المصارف غير معترف بها من قبل الوزارة. مشيراً لـ”نداء الوطن” ان هذا القرار هو حكم بالاعدام على ما تبقى من القطاع المصرفي بالتكافل والتضامن بين وزارة المالية والسلطة السياسية. في المقابل إستغرب فحيلي كيف لم تعلّق جمعية المصارف على اعلان وزارة المالية الذي اعتبرته شأن وزارة المالية والمستورد فقط وليس شأنها.
عدة سلبيات
في هذا السياق، اعتبر نقيب اصحاب معارض السيارات المستعملة وليد فرنسيس ان هذا القرار “سيجعلنا رهينة الصيارفة وموظفي مصرف لبنان” مؤكداً لـ”نداء الوطن” انه سيعرقل العمل على المرفأ وسيؤخر تخليص البضائع بالاضافة الى سلبيات أكبر وأخطر تتمثل بـ:
- عدم توفر كميات كبيرة من السيولة النقدية لدى الصيارفة تكفي المبالغ المطلوبة لتسديد الرسوم الجمركية والضريبية ( بعشرات المليارات) المتأتية فقط من استيراد السيارات المستعملة. علماً ان مستوردي السيارات يسددون قيمة الرسوم الجمركية والضرائب سلفاً، قبل اتمام عمليات بيع السيارات التي قد تطول لفترة تمتدّ الى اشهر من تاريخ الاستيراد، وبالتالي لا تتوفر لديهم تلك الاموال نقداً.
- سيتحمّل المستوردون مسؤولية ومخاطر أمنية كبرى جراء عملية نقل الاموال بالمليارات من المعارض الى صناديق مصرف لبنان، علماً ان مسؤولية تسديد تلك الرسوم كانت موكلة الى مخلصي البضائع الذين لم يعد بالامكان تحميلهم مسؤولية نقل تلك المبالغ الهائلة، من دون اي ضمانة بعدم سرقتها او تعرّضهم للسرقة خلال عملية نقلها. واشار فرنسيس في هذا الاطار، الى ان شركات التأمين لا تغطي السرقات التي قد تحدث خلال عملية نقل الاموال إلا للشركات التي تحمل رخصة نقل الاموال، وبالتالي “هل المطلوب منا التعامل مع شركات لنقل الاموال وتحمّل مزيد من الاعباء المالية؟”.
تحت رحمة الصيارفة ومصرف لبنان
وسأل فرنسيس: هل يعقل ان يصبح الاستيراد تحت رحمة الصيارفة وموظفي مصرف لبنان في حال اعلنوا الاضراب كما جرت العادة؟ هل المطلوب ان نستغني عن اموالنا العالقة في حساباتنا المصرفية؟ وهل نفهم من ذلك ان ودائعنا بالليرة لم تعد تنفع لأي غرض؟
أما مستوردو المحروقات الذين يتقاضون ثمن مبيعاتهم نقداً من المحطات، فسلبيات هذا القرار بالنسبة لهم تتعلق بخطورة نقل الاموال ايضاً التي تبلغ قيمتها الاجمالية اضعاف قيمة الرسوم والضرائب المفروضة المحصّلة من السلع المستوردة الاخرى، خصوصاً ان فاتورة استيراد المحروقات تبلغ حوالى 5 مليارات دولار سنوياً، وتشكل الرسوم والضرائب المفروضة عليها نسبة كبيرة من ايرادات الخزينة. ووفقاً لمصادر معنيّة بالقطاع، فان قرار وزارة المالية “سيضع حدّاً لتجارة الشيكات المصرفية”!