لا ظروف ناضجة محلياً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. وبطبيعة الحال، لا مقومات خارجية للانخراط في تفاصيل الملف اللبناني والغرق في مستنقعاته. وعلى الطريقة اللبنانية المعتادة، يلجأ اللبنانيون إلى تعليق التعطيل والعرقلة والانسداد على شمّاعة الظروف الإقليمية والدولية، والتي هي بلا شك عنصر مؤثر. في القراءة المعتادة للواقع الإقليمي الدولي، والذي يدفع اللبنانيين إلى الاستثمار بالوقت الضائع وتعبئته فقط، فإن الانسداد الخارجي لا بد له أن ينعكس أيضاً انسداداً داخلياً، خصوصاً في ظل التوتر في العلاقات السعودية الأميركية أولاً، ووقف مسار الحوار السعودي الإيراني في بغداد. هذا ما يدفع اللبنانيين إلى الاستنتاج بأن لا هم خارجياً يحيط بالأزمة الداخلية، ولا جاهزية لأي طرف للانخراط في المعادلة اللبنانية حالياً.
حزب الله ينتظر
بناء عليه، فإن لبنان أمام فراغ طويل طالما أن القوى السياسية لا تبدو قادرة على إنتاج تسوية تنجح بموجبها الحصول على بعض من الالتفاتة الخارجية. هنا يحتكم اللبنانيون إلى خيارين إما إطالة أمد الفراغ، أو النجاح في ترتيب التوافق. وهذا ما يدفع الكثيرين إلى الاستنتاج بأن حزب الله لا يزال يدعم سليمان فرنجية، ويفضل الانتظار إلى لحظة استسلام الآخرين لتبني ترشيحه. وطالما أن ذلك غير قابل للصرف حالياً، فلا بد من إبقاء الستاتيكو القائم على حاله. هذا بالنسبة إلى حزب الله وإيران، التي تنتظر أي تطورات قد تحصل على صعيد العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. أما على صعيد المملكة العربية السعودية، فلا تزال الشروط السعودية نفسها، وهي إنجاز تسوية لبنانية وفق المقتضيات الخارجية لاستعادة الثقة. وهذا يعني عدم استعداد سعودي للانخراط في التفاصيل أو في النقاش على الأسماء حيال التسوية الرئاسية ورئاسة الحكومة بعدها، على الرغم من محاولات داخلية كثيرة تسعى للحصول على إشارات من الرياض.
ما بعد الترسيم
وسط كل ذلك، لا بد من تسجيل جملة من الوقائع والتطورات التي حصلت في لبنان. وهذه تدفع حزب الله ليكون أمام مفترق طرق، والتفكير بشكل مفصلي يتجاوز الأزمة الراهنة، وينجم عن إدراك بأن اتفاق ترسيم الحدود سيكون له تبعاته. إذ لا يمكن الاستمرار بالقول إنه اتفاق لا يؤدي إلى أي تغيير، ويبقى منفصلاً عن كل السياقات الأخرى. فمثلاً، ما عاد التلويح بالتصعيد العسكري أمراً واقعياً. هناك حاجة لإيجاد خطاب متقدم بعيد عن النهج الأيديولوجي الأقصى، وصولاً إلى خطاب عقلاني أو براغماتي أكثر، للتأقلم مع مرحلة جديدة، يتم فيها التسويق سياسياً لدور جديد مع دخول عناصر مستجدة لها علاقة بملف الترسيم: النفط والغاز وتصديرهما، مواجهة الانهيار، بناء الدولة، إنتاج نظام اقتصادي جديد.
بلا شك، أن الحزب منهمك في كيفية التعامل مع مثل هذه التطورات المستجدة، مقابل أن يبقى عنصراً ولاعباً أساسياً في لبنان، بمقتضيات الانعكاس الإقليمي على الساحة اللبنانية، وبالتالي العودة إلى الداخل أكثر فاكثر، لا سيما أن المشروع الإيراني قد أخذ مداه إلى أقصى الحدود، وهو أصبح في مكان ما بطور الاستعداد للتراجع. وبعدما كان الهم في الفترة السابقة هو التمدد والتوسع، حالياً يتركز التفكير على كيفية الحفاظ على المكاسب، لأن التحديات التنموية والمالية والاقتصادية، لا يمكن معالجتها بالأدوات العسكرية. من هنا، ثمة إدراك حول ضرورة تقديم تنازلات، من العراق إلى سوريا ولبنان، بالإضافة إلى اليمن كأولوية خليجية وتحديداً سعودية، خصوصاً ان البعد العسكري والأمني قد استنفد قدرته.
النتائج الكارثية ودروسها
كل هذه الوقائع لا بد لها أن تفرض واقعاً جديداً مختلفاً عن السائد. وهو في أحد جوانبه، لا بد أن يعبّر عن هذا التحول في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، والذهاب إلى منحى التفاهم أو التسوية بدلاً من فرض مرشح التحدّي، أو الاستمرار في خوض المواجهات. ولا بد أن الحزب قد وصل إلى هذه القناعة بعد مسار طويل من الأزمات والانفجارات التي شهدتها المنطقة. إذ كان من المستحيل في السابق الحديث عن إمكانية سيطرة إيران أو حزب الله على المنطقة، إلا أن الحروب والمعارك التي خيضت سمحت لطهران بتحقيق التقدم من سوريا إلى العراق فلبنان، وتحديداً بعد الاتفاق النووي في العام 2015، حين تكرس النفوذ الإيراني في المنطقة. إلا أن السنوات التي تلت وتداعياتها والوقائع البشرية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، تظهر فشلاً ذريعاً. وفي المقابل، أصبح ردّ خصوم طهران في هذه المناطق هو التسليم عمداً بسيطرتها أكثر، لتعميق المآزق والانهيارات وتوفير استمراريتها. وهذا وحده ما يدفع إيران وحلفاءها للإتجاه إلى مقاربة جديدة، تقتضي التكيف مع المرحلة الجديدة. والمثال الأبرز على ذلك، أنه منذ العام 2016 إلى اليوم وحزب الله وصل إلى ذروة انتصاراته السياسية في لبنان، إلا أن نتائجها كانت كارثية، بغض النظر عن الأسباب، والتي تدفع إلى التفكير بطريقة مغايرة.