وكأنّ بالمتظاهرين يرون في بوابة سرايا طرابلس الحديدية تجسيداً للمنظومة الحديدية الحاكمة، فيحاولون تكراراً اقتلاعها ومحاكاة الأمل بكسر قضبان زنزانة السلطة التي حولت البلد إلى سجن كبير محكوم على اللبنانيين العيش فيه مع الأشغال الشاقة، بانتظار أن ينطلق قطار التفاوض الإيراني مع إدارة بايدن.
صحيح أنّ “عمر طيبا” ابن باب التبانة المنكوبة الذي قضى برصاصة في الظهر أمس، ليس الأول ولن يكون آخر من سيتساقطون على مذبح الانهيار، لكنه ربما كان أول مثال حيّ عن الوعد العوني “الصادق” بأنّ البلد يسير نحو “جهنّم”…
وما طرابلس سوى أول الواصلين إليها. لا ريب في أنّ أي حراك ثوري في الشارع، بحكم التجارب التاريخية، هو عرضة للخروقات السياسية والأمنية، ولا شكّ بأنّ المتسلّقين على أوجاع الناس لن يُعدموا وسيلةً لحرف الأنظار عن دوافع الغضب الشعبي والسعي لوصم كل تحرك على الأرض بوصمة التآمر ودس الدسائس، لكنّ الأكيد أيضاً أنّ أكبر متآمر على الناس في هذا الوطن هم حكامه بشهادة الداخل والخارج، الذين أوصلوا اللبنانيين إلى قعر الانهيار والإفلاس ولا يزالون يتحلّقون حول جيفة الدولة لتناتش حصصها ونهش “توقيع ثالث” من هنا أو “ثلث معطل” من هناك. فحكومة الإنقاذ بنظر السلطة إما تكون خشبة خلاص لأركانها أو لا تكون، والقتال على حلبة التأليف لن يتوقف حتى آخر رمق لبناني من دون رصد أي أثر لضمير يؤنب أو جفن يرفّ لدى الأكثرية الحاكمة.
حتى قضية دعوة مجلس الدفاع الأعلى للانعقاد من عدمها، باتت محل تناحر بين أركان المنظومة الواحدة، كما حصل أمس بين بعبدا والسراي الحكومي، على صورة تراشق إعلامي حول مسألة رفض رئيس الجمهورية ميشال عون طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عقد اجتماع للمجلس يبحث مستجدات الأوضاع في طرابلس، مقابل رغبة عون بترك الموضوع راهناً على طاولة مجلس الأمن المركزي، ما يشي بحسب أوساط طرابلسية بأنّ “هناك نية مبيتة بترك الفلتان يبلغ مداه في الشارع تمهيداً لتبرير اتخاذ قرار باستخدام القوى العسكرية لقمع الناس، تحت ذريعة مكافحة المخلين بالأمن والحفاظ على السلم الأهلي”.
وفي الغضون، أطل رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل أمس على أنقاض الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي بلبوس “الإصلاحي الأوحد في الجمهورية”، كما وصفت مصادر سياسية معارضة بيانه “المنفصم عن الواقع” أمس، وسألت: “كيف لا يكون منفصماً عن الواقع حين يدّعي محاربة فساد “المنظومة السياسية” الحاكمة في حين أنه هو وتياره وعهده العمود الفقري لهذه المنظومة؟”.
ولفتت المصادر إلى أنّ كلام باسيل بالأمس “أتى واضحاً بمثابة محاولة ركوب لموجة التحقيق السويسري، بالتوازي مع ادعاء النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بقضية دولار الصرافين”، خصوصاً وأنه كان صريحاً بإملاءاته “على القضاء اللبناني بأن يواكب القضاء السويسري”، مستغربةً “هذا الكم من استغباء عقول الناس عبر تصوير تحرك القضاء السويسري في قضية التدقيق بتحويلات مالية شخصية لسلامة عام 2016، على أنه أتى استجابةً لطلبات ومراجعات باسيل مع المسؤولين الدوليين والأوروبيين والأميركيين لكشف التحويلات المشبوهة إلى الخارج وإعادتها لى لبنان”، وأردفت: “هل نسي أنه هو نفسه مدرج على قائمة العقوبات بتهم الفساد وصدرت أوامر تنفيذية بتجميد حساباته ومنعه من التعامل مع المصارف الخارجية؟”.
وإذ نصحت كل أركان الطبقة الحاكمة بالإقلاع عن “الخطاب الخشبي” لأنه لم يعد ينطلي على أحد لا في لبنان ولا خارجه، ختمت المصادر بتهكم قائلةً: “طبعاً جبران باسيل هو رأس الحربة في مكافحة الفساد في البلد، فإن كنتم تشككون بذلك إسألوا (مذيعة “سي أن بي سي”) هادلي غامبل”!