لا تزال الجرائم التي تُرتكب بحق النساء في مجتمعاتنا تتزايد في العديد من الدول، بما في ذلك لبنان، وهي لا تعكس فقط انتهاكاً لحقوق الإنسان، بل تمثل أيضا انعكاسا لثقافة عميقة من العنف والتمييز. إذ تُسهم التقاليد والأفكار السائدة في خلق بيئة تعزز من الإحساس بالسلطة والهيمنة لدى البعض، مما يجعلهم يعتقدون أنهم يمتلكون حقاً في تقرير مصير الآخرين، بما في ذلك حياة زوجاتهم.
جريمة قتل الإعلامية عبير رحال على يد زوجها خليل مسعود داخل محكمة شحيم قبل ايام، التي هزّت الرأي العام اللبناني، ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة من الممارسات الاجرامية التي تطال النساء. فما الذي يدفع الرجال إلى ارتكاب هذه الجرائم؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يتعامل معها بشكل فعال؟
كيف وقعت الجريمة في وضح النهار؟
في صباح يوم الجريمة، كانت عبير رحال قد رفعت دعوى تفريق ضد زوجها، وكان موعد الجلسة المحدد في 26 من الشهر الجاري. لكن خليل مسعود، الذي دخل المحكمة في البداية دون أن يثير أي شكوك، كان يحمل نية مسبقة لإنهاء حياة زوجته. فور خروجه من المحكمة، أطلق عليها النار بدم بارد في الممر الخارجي للمحكمة، لتسقط ضحية لهذا الهجوم الوحشي. كان القاضي في محكمة شحيم رئيف عبد الله، قد سمع صوت الطلقة النارية وهو داخل القاعة، ليخرج ويجد الجثة ملقاة على الأرض، قرب الباب الحديدي للمحكمة. وعقب إطلاق النار، فرّ الجاني من المكان، مهددًا بقتل أي شخص يحاول اللحاق به. وبعد أن تم إبلاغ السلطات، بقيت الجثة في مكان الحادث حتى وصول الأدلة الجنائية.
والدة المغدورة تكشف تفاصيل مأسوية
تكشف والدة الضحية عبير رحال السيدة بهيجة لـ “الديار”، عن تفاصيل مؤلمة وتسلط الضوء على معاناة ابنتها مع زوجها الذي وصفته بـ “المتشدّد” والعنيف. وتقول بهيجة: “ابنتي كانت تعيش تحت قيود صارمة، حتى انها لا تملك سيارة، لتتمكن من الذهاب لأي مكان بمفردها، فكيف لها ان تخونه كما يزعم، إذا لم تكن تنتهي من وضع مولود، حتى تجد نفسها حاملاً مرة أخرى؟ لديها ثلاثة أطفال، أصغرهم لم يكمل شهره الثالث، ومع ذلك يتهمها بالخيانة. حتى التطعيمات الضرورية للرضيع قمت بها أنا من جيبي الخاص”.
ضرب وتعنيف جسدي موثّق
وتوضح السيدة بهيجة أن عبير زارتها في إحدى المرات، بعد تعرضها لضرب مبرح على يد زوجها، حيث كانت آثار التعنيف واضحة على وجهها. وتضيف، “أخبرتني عبير أن الموظفة التي تعمل معها في المكتب سألتها عن سبب الكدمات، فأجابت عبير: زوجي. وقد التقطت الموظفة صوراً توثق حالة عبير، ولكن الصور الجديدة ليست بحوزتي الآن.وقد حصلت “الديار” على صور ومقاطع “فيديو” حصرية، تُظهر التعنيف الجسدي الذي كانت تعانيه. ورغم ذلك، نصحتها والدتها مرارا بالصبر والبقاء في منزلها، لأنها لا تستطيع تحمل فكرة ترك الأطفال الثلاثة بمفردهم، اضافت الوالدة : لكن عبير أخبرتني أن الوضع أصبح لا يُطاق، وأن زوجها يمنعها من زيارتي حتى تختفي آثار الضرب”.
استغلال
وتتحدث السيدة بهيجة عن استغلال زوج عبير لها مادياً، قائلة: “كانت تعمل في مجال الأخبار، لكن دخلها لم يكن كافياً. وعندما تحقق أي أرباح من دعاية ما، كان زوجها يأخذ المال ليصرفه على أولاده من زوجاته الأخريات، إذ تزوج أربع مرات، وكان يختلق المشكلات باستمرار”.
داخل المحكمة ام خارجها؟!
وتروي الام تفاصيل الجريمة المروعة التي أودت بحياة ابنتها، مشيرة إلى أن الزوج دعا عبير إلى المحكمة لإنهاء مسألة الطلاق. وتساءلت بغضب: “أين كان عناصر الدرك عندما ارتكب جريمته؟ لقد أطلق النار على رأسها من الخلف بعد أن رفضت العودة إليه ،وقالت له إنها ستتنازل عن كل شيء للحصول على الطلاق”.وتؤكد لـ “الديار” أن “شهودا أفادوا بأن الزوج دفع دركياً تجاه الحائط وفرّ هارباً، وعلقت: “كيف يمكن أن يكون الدركي غير مسلح أو غير قادر على إيقافه بإطلاق النار على قدمه؟”.
قلق وتساؤلات!
وتعرب السيدة بهيجة عن شكوكها بشأن وفاة الجاني، قائلة: “القاضي رئيف عبد الله ذكر أن الحادثة وقعت خارج المحكمة، لكن الجميع شاهدها داخل المحكمة، وصُوِّرت هناك. وبعد ساعتين من هروبه، أعلنوا وفاته، لكنني أطالب الدولة بالسماح لي برؤية جثته. أريد أن أطمئن بأن هذا القاتل قد مات فعلاً، فقد يكون ما حدث مجرد خدعة جديدة من ألاعيبه”.
وتختم السيدة بهيجة بتوجيه رسالة الى الدولة اللبنانية: “أطالب بالعدالة لابنتي وكشف الحقيقة كاملة، فلن أرتاح إلا برؤية جثة خليل مسعود قاتل ابنتي، وهذا حقي”.
فيديوهات” مُريبة
في تفاصيل إضافية، كشفت “الديار” عن الفيديو الذي نشره الزوج خليل مسعود قبل ارتكابه الجريمة، حيث اتهم فيه زوجته عبير رحال بالخيانة مع 11 رجلًا، مشيراً إليهم كعشاق لها. الشريط الذي امتد الى حوالي 22 دقيقة، كان بمثابة توثيق لمشاعره المتأججة وادعاءاته لزوجته، حيث تحدث عن “خداعها” وسلوكياتها.اللافت أيضا أن الزوج كان قد نشر سابقاً مقطع “فيديو” آخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر فيه داخل سيارته برفقة زوجته عبير رحال. في الفيديو، كان يستمع إلى أغنية تتضمن عبارة: “عاجهنم ماني رايح إلا أنا وياكي”، وهو يشير بيده إلى عبير ثم إلى نفسه. هذا الفيديو أستوقف “الديار” واثار ريبة حول نوايا الزوج السابقة، ومدى ارتباطه بخططه المستقبلية تجاه زوجته.
غسل العار”؟؟!!
هذه القضية تفتح باب التساؤل حول مفهوم “غسل العار”، وإذا كان يمكن تبرير سلب حياة إنسان تحت أي ظرف. الهيمنة الذكورية المتجذرة في العديد من المجتمعات، سواء في لبنان أو في العالم العربي، أو حتى على مستوى العالم، غالباً ما تجد مبررات لإنهاء حياة النساء، مكرسةً ثقافة العنف والتمييز. هذه الجريمة، التي تحركها دوافع شخصية وذكورية، تعكس خللاً عميقاً يحتاج إلى معالجة مجتمعية وتشريعية.
المجتمع هو المحرك
الخفي للجرائم ضد النساء
من جهتها، تؤكد المحامية مريانا برو لـ”الديار” أن المجتمع، بنظامه الأبوي والذكوري، يشكل بيئة حاضنة لكافة أنواع الجرائم، خاصة تلك التي تُرتكب بحق النساء. وترى أن المرأة تُختزل في كثير من الأحيان إلى جسد فقط، بينما تُبرر جميع أفعال الرجل، حتى إذا وصلت إلى حد القتل.وتضيف: “غالباً ما تُقتل النساء حتى وإن كُنّ من أطهرهن، ودائما ما يجد الرجل مبرراً لجريمته تحت ذريعة “جريمة الشرف”. والأسوأ من ذلك، أن هذا العذر يُقابل بتعاطف المجتمع وتقبّله. لذا، المسؤولية لا تقع فقط على الجاني، بل أيضًا على المجتمع ومن يُسهم في خلق بيئة تُشرعن الجريمة”.
وتتابع برو “من يبرر جريمة قتل خليل مسعود لزوجته بعد سماعه “الفيديو” الذي صوّره، ربما يواجه يوماً ما جريمة مماثلة بحق إحدى قريباته من النساء، وعندها سيدرك مدى خطأ رأيه وظلمه”. وتضيف: “في النهاية، عبير لم تُخبرنا ماذا جرى معها قبل وفاتها، لكن تعاطف المجتمع مع الجاني امر صادم، وكأنه القاتل خالٍ من الشرف. فلو أن امرأة قتلت رجلاً، لما قالوا إن ذلك كان بدافع الخيانة، بينما تُلقى الاتهامات على النساء بسهولة”.
الجانب القانونيمن الناحية القانونية، تشير برو إلى أن قانون حماية النساء من العنف الأسري، يُعدّ أداة فعالة إلى جانب قانون العقوبات، قائلة: “هناك الكثير من المواد التي تعالج تعنيف النساء وجرائم القتل بحقهن، وتشدد العقوبات في حالات عديدة. ومع ذلك، ترى أن المشكلة الأساسية ليست في النصوص القانونية أو تشديد العقوبات فقط، بل في الأسباب الاجتماعية التي تدفع إلى ارتكاب الجرائم.وتردف، عندما يفقد الشخص توازنه العقلي، قد يرتكب جريمة دون أن يرى أمامه سوى الضحية. خليل مسعود، على سبيل المثال، ترك خلفه ستة أطفال، أصغرهم لم يتجاوز الشهر من عمره، دون أن يُفكر في مصيرهم. هذا السلوك يدل على أنه شخص مريض وغير متزن”.
تساؤلات مشروعة
وتطرح برو تساؤلاً حاسما: “لو كانت عبير حقًا خائنة كما يدّعي زوجها، لماذا كان يصرّ على عدم منحها الطلاق؟ وإن كانت خانته مع 11 شخصًا كما يزعم، لماذا استمر معها كل هذه الفترة؟ وتستند إلى معلومات دقيقة حصلت عليها من أشخاص مقربين من الزوجين، وتوضح أن خليل مسعود يبدو أنه كان يعاني من مشكلات نفسية، بينما عبير كانت شخصية محترمة، ذات حضور اجتماعي لافت، تساعد الجميع، ومعروفة بأخلاقها العالية”.
ما هو الحل؟ تجيب برو “القضاء في الفترة الأخيرة حاول تشديد العقوبات، ما دفع النساء إلى التعرف أكثر على حقوقهن القانونية، واللجوء إلى الإجراءات المناسبة لصون هذه الامتيازات”. وتشدد على “أن الحل يكمن في وعي المرأة وتجنبها الارتباط بأي شخص تُظهر سلوكياته علامات غير جيدة منذ البداية، وهي وحدها قادرة على حماية نفسها من الوقوع في علاقات خطرة”.
في الخلاصة، تتزايد جرائم قتل الفتيات والنساء في لبنان بشكل مستمر، حيث وصلت حصيلة الضحايا منذ بداية العام وحتى اليوم 26 حالة. ومع كل جريمة، لا نحصل إلا على عبارات الشجب والاستنكار. والسؤال الذي نطرحه على المعنيين حكوميا ومجتمعيا: ألم يحن الوقت بعد لوضع حد لهذا الاستهتار بحياة النساء؟