مع اقتراب الساعة الثانية بعد الظهر في أحد شوارع بيروت المزدحمة، يظهر مشهد غير مألوف على الطرقات. فتيات بعضهن محجبات، يمسكن بمقود دراجاتهن النارية بثقة، يسرن في زحام المدينة وكأنهن جزء من هذا المكان، الذي كان في يومٍ محكوماً بعادات وأعراف صارمة. في الماضي، كانت رؤية امرأة تقود «موتوسيكل» استثناءً نادرا، أما راهنا، فقد بات هذا المشهد واقعاً يعكس التحوّلات الاجتماعية التي فرضها التغيير والتحدّيات، الى جانب الأزمات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد منذ العام 2019 أي مع بداية ثورة 17 تشرين.في الماضي، كان لبنان مقيّداً بتقاليد صارمة وأدوارٍ محددة، لكن مؤخرا يعيش مرحلة من التحوّل العميق التي تعكس صورة جديدة للنساء فيه. فهن يتحدّين القيود الاجتماعية التقليدية ويدخلن ميادين لم تكن لتخطر على بال أحد. وقد وثّقت «اللواء» في جولة على الطرقات صورة غير مألوفة؛ فتيات يقُدن الدراجات النارية بجرأة واضحة، وكأنهن يتسلّحن بتلك الوسيلة لاكتشاف مساحة جديدة من الحرية، وإثبات القدرة على العمل في مجالات كانت مقتصرة على الرجال.
الجدير بالذكر هنا انه لا يختلف اثنان على ان هذه المشاهد تمثل لحظة فارقة في تاريخ المجتمعات، حيث كان يُنظر إلى مثل هذه المهن، مثل قيادة الدراجة النارية أو سيارة الأجرة، على أنها جزء من طبيعة الرجل، ذلك الدور الذي كان يحدده المجتمع بأبعاده الضيقة. ومع الأزمة الاقتصادية التي ألمّت بالبلاد، بات من الضروري على النساء ليس فقط كسر الحواجز النفسية، ولكن أيضا الاقتحام المباشر لهذا المجال الاقتصادي، حتى لو كان ذلك يعني الخروج عن المألوف. وربما تصبح هذه المهام أكثر من أداة لتأمين لقمة العيش، إذ تكتسب فيها الفتيات شيئاً من التحوّل الاجتماعي الذي يربطهن بواقعهن العصيب، وأحياناً بقدر من الشجاعة يتجاوز التحديات المعتادة.
في موازاة ذلك، هذا التحوّل لم يكن ليحدث في السالف، حيث كان يُعتبر «عيبا» أو «مخالفاً للعادة» أن تُشاهد فتاة خلف عجلة دراجة نارية، لكن اليوم، نجد أن الظروف الصعبة تُسهم في كسر هذه القوالب الاجتماعية، مما يجعل مهناً مثل هذه ليست فقط سبيلاً لتلبية الاحتياجات المالية، بل خطوة نحو تحطيم قيود الماضي، ورسم ملامح هوية جديدة في وجه الزمان. وبذلك، تنطلق النساء في رحلة لا تقتصر على تحسين وضعهن المالي، بل تمثل صراعاً مع أفكار بالية تستهين بقدراتهن وتحدّ من إمكانياتهن.
التحوّلات الاجتماعية تفتح آفاقاً جديدة للطرفين!
من جانبها، توضح نقيبة الاختصاصيين في العمل الاجتماعي الدكتورة ناديا بدران، في حديثها لـ «اللواء» أن «قيادة المرأة للدراجة النارية قد تُعتبر ظاهرة، لكن لا أعلم مدى تطورها في لبنان مقارنة بشيوعها في دول عربية أخرى. فقد شاهدتُ ذلك في المغرب، غير أنني، من وجهة نظري الخاصة، أرى أن تطور المجتمع واحتياجاته فرضا على المرأة خوض مجالات متعددة، بما في ذلك مهن كانت سابقا منوطة بالرجال، مثل الطب والهندسة وهندسة الكمبيوتر، بالإضافة إلى الميكانيك، رغم أن عدد النساء فيه لا يزال ضئيلًا. ومع ذلك، باتت المرأة موجودة في هذا المجال أيضا».
التغيير المهني: دخول الجنسين في قطاعات كانت حكراً على الآخر!
وتشير الى انه «ثمة أعمال تتطلب قوة جسدية تفوق قدرة النساء، كقيادة الشاحنات الضخمة، التي أصبحت شائعة في بعض الدول. لكن يبقى السؤال: هل المرأة التي تقود شاحنة وتبقى على الطريق لأيام طويلة حتى تصل إلى وجهتها محمية؟ من هنا، لا بد من التفكير في هذه الزاوية أيضا. لذلك، بدأنا نلاحظ أن قطاعات كانت قبل نحو أربعين عاما حكرا على الرجال قد شهدت نقلة واضحة. فمثلًا، كان الحضور الذكوري طاغياً في مهنة المحاماة مقارنة بنسبة النساء، فيما كانت المرأة تتجه إلى مهن محدودة مثل الصيدلة، التي كانت نسبة العاملات فيها آنذاك ضئيلة، بالإضافة إلى التمريض وبعض المجالات الأخرى. أما العمل الاجتماعي، فقد ظلّ قطاعا تستحوذ عليه النساء، ليس فقط في لبنان، بل عالميا، حيث يشكلن الغالبية العظمى في هذا المجال. ومع ذلك، بدأ الرجال منذ نحو عشرين عاما دخول مهن مثل العمل الاجتماعي والتمريض. منذ ذلك الحين، أصبح هناك انتقال بين الجنسين في سوق العمل، واكتسح كلٌّ منهما مجالات كانت سابقا حكرا على الآخر، مما يعكس تطورا لم يقتصر على النساء فحسب، بل شمل الرجال أيضاً»
عقبات تذوب مع الزمن
وتضيف: «لم يعد مستغرباً أن تعمل المرأة كسائقة سيارة أجرة أو حافلة، لكن لا تزال هناك عقليات محدودة التفكير في مجتمعنا. ففي بعض البيئات، لم يكن مستحسناً ركوب الفتاة الدراجة النارية على انه غير مناسب، إلّا أن هذه العقبات بدأت تتلاشى مع مرور الوقت. فقد فرضت التغيّرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، إضافة الى الحاجة الملحّة للمرأة للوصول إلى وظيفتها أو جامعتها، أو حتى كوسيلة اقتصادية للتنقل. لذلك، أضحت الدراجة ذات العجلتين أقل تكلفة من وسائل النقل الأخرى، ما دفع العديد من النساء إلى تبنيها. كذلك، شهدنا سابقا إطلاق مبادرات مثل «التاكسي الروز»، بهدف تخصيص سيارات أجرة تقودها نساء لخدمة النساء، في محاولة لتشجيعهن على دخول هذا المجال، إذ يُنظر إلى الصعود في سيارة تقودها امرأة على أنه أكثر أمانا لبعض الزبونات وحتى الزبائن الذكور مقارنة بركوب سيارة يقودها رجل».
الاستغلال للجنسين وارد!
من جهة أخرى، تتحدث بدران عن «التخوّف من تعرّض النساء للاستغلال في بعض المهن، ما يطرح تساؤلات حول قدرتهن على حماية أنفسهن. لكن في الواقع، الحوادث قد تقع مع الرجال والنساء على حد سواء، وإن كانت العقلية السائدة تفترض أن الرجل قادر على الدفاع عن نفسه نظرا لبنيته الجسدية، فيما المرأة أقل قدرة على ذلك. غير أن هذا المفهوم مغلوط، فهناك نساء يتمتعن بلياقة جسدية تمكّنهن من الدفاع عن أنفسهن، كما أن الاستغلال ليس حكراً على جنس دون الآخرين».وتختتم حديثها بالتأكيد على أن «المجتمع قد تطوّر إلى درجة تلاشت معها الهواجس المتعلقة بالأحكام المسبقة حول عمل المرأة، سواء كسائقة سيارة أجرة أو دراجة نارية، ما يعكس تحوّلًا جوهريا في النظرة المجتمعية إلى دور النساء في مختلف المجالات».
التحوّل الاجتماعي والثقافي: من قيود العادات إلى تصدّر المهن
من جهتها، تقول الطالبة الجامعية رنا لـ «اللواء»: «لطالما كانت المهن التي تتطلب القوة البدنية أو الجهد الميداني من اختصاص الرجال فقط في المجتمع اللبناني، مثل قيادة الدراجات النارية أو سيارات الأجرة. في الماضي، كان يُنظر إلى المرأة في هذه المهن باعتبارها «مخالفة للعادة» أو «عاراً» في بعض الأحيان. لكن مع مرور الوقت، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلاد، بدأت تلك المفاهيم تتبدل، وأصبحت الفتاة التي تقود الدراجة النارية تُعتبر رمزًا للاستقلالية والمثابرة، لا مجرد «خروج عن المألوف».على مقلب متصل، وبحسب العديد من النساء اللواتي تحدثت «اللواء» إليهن، فإن الأزمة الاقتصادية فرضت واقعا جديدا دفعهن إلى الخروج من إطار الأدوار التقليدية للمجتمع. تتحدث زينة، وهي شابة محجبة تعمل «دليفري» على الدراجة النارية في بيروت، عن تجربتها قائلة: «لم يكن لديّ خيار آخر، وأيقنت انه إذا أردت أن أؤمّن لقمة عيشي، فيجب أن أكون مرنة وأبحث عن عمل في مجال غير تقليدي. في البداية كان الناس يستغربونني، لكنني اليوم أعتبر جزءا من النظام اليومي للمجتمع، وإنني أفتخر بأنني أساهم في تأمين احتياجات عائلتي».
الأمان والمخاطر: معركة بين الاستقلالية والتهديدات
على الرغم من الفوائد التي تعود على النساء من خلال الانخراط في هذه المهن، إلّا أنهن يواجهن أيضا العديد من المخاطر. في المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس، تجابه النساء العاملات في قيادة الدراجات النارية تحدّيات أمنية متزايدة، مثل التعرّض لعمليات سرقة أو اعتداءات جسدية خلال التنقلات.رغم هذه المخاطر، فإن العديد منهن يعتبرن العمل في هذه المهن أكثر أماناً من بعض البدائل الأخرى التي قد تعرضهن لخطر أكبر. تقول منى، وهي تعمل في مجال التاكسي في بيروت: «بالتأكيد، هناك تهديدات. لكن إذا نظرت إلى الخيارات الأخرى المتاحة لي، أجد أن التنقّل على دراجة نارية أو سيارة الأجرة أفضل بكثير من أن أضطر للعمل في مكان قد يكون أكثر خطورة».
دور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي: الناقل الاجتماعي والتحفيز
لا شك انه لا يمكن تجاهل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في هذا التحوّل. قد نجد أن الفتيات اللاتي يقدن الدراجات النارية أو السيارات يستخدمن منصات مثل «انستغرام» و«فايسبوك» ليس فقط للتواصل مع الآخرين، بل أيضا لعرض قصصهن وتجاربهن، مما يعزز ثقافة التحدّي ويساهم في تغيير صورة المرأة في المجتمع. هذه المنصات أصبحت أرضا خصبة لإلهام غيرهن من الفتيات للانخراط في هذه المهن.
الجانب النفسي: تحطيم القيود الداخلية
انطلاقاً من كل ما تقدّم، فإن أحد الجوانب الأكثر تأثيرا في هذا التحول هو الجانب النفسي. فبينما تتزايد الفرص الاقتصادية، يجد العديد من النساء أنفسهن في مواجهة مع القيود النفسية التي فرضها المجتمع التقليدي. تحكي ليلى، إحدى الفتيات اللواتي انخرطن في مجال العمل على الدراجة النارية، قائلة لـ «اللواء»: «في البداية كان لديّ شكوك حول نفسي، هل يمكنني القيام بذلك؟ ولكنني الآن أدركت أن هذه هي فرصتي لأثبت لنفسي وللمجتمع أنه ليس هناك ما يمكن أن يوقفني».
في الخلاصة، إن تحوّل المرأة اللبنانية إلى سائق دراجة نارية أو سيارة أجرة ليس مجرد رد فعل على الأزمة الاقتصادية، بل هو أيضا جزء من تغيير اجتماعي وثقافي عميق يعكس قدرة المرأة على التكيّف والتحدّي. ورغم المخاطر والتحدّيات التي تواجههن، تظل النساء اللواتي يمتهن هذه المهن في صدارة التغيير الاجتماعي، حيث يتجاوزن القيود التقليدية لتحقيق استقلالهن الاقتصادي والاجتماعي.