مع دخول الحرب الإسرائيلية الموسعة على لبنان أسبوعها الثامن، بدأ عدّاد النزوح اللبناني إلى العراق يتباطأ، فقصف اسرائيل غالبية المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، صعّب النزوح براً.
إلى اليوم، دخل العراق 36 ألف لبناني، براً أو عبر مطار بيروت، في نزوح جماعي يعكس قساوة مفاعيل الحرب على البيئة الشيعية، التي لم تنزح إلى العراق في حرب 2006، ووجدت في بلاد الرافدين – غير الآمنة بالكامل بل والمهددة باحتمال توسع رقعة الحرب لتطالها – أمناً موقتاً، تعكره خشية النازحين الشيعة من مشروع توطين لهم في العراق.
الخشية فاقمتها إجراءات الحشد الشعبي في العتبات الدينية التي استقبلت اللبنانيين، وصعوبة اندماج النازحين مع “الثقافة العراقية”، ما انعكس نزوحاً عكسياً، مع تسجيل عودة 11 ألف نازح منهم إلى لبنان، ليستقرّ رقم النازحين الحاليين حول 22 ألفاً تقريباً. فماذا في المشهدية الميدانيّة؟ “نداء الوطن” قصدت العراق لتقرأ واقعياً الميدان.
تترافق هذه المخاوف مع تصدّر محافظتي كربلاء والنجف لائحة المحافظات العراقية الأكثر استقبالاً للبنانيين النازحين بتنظيم ورعاية من الحشد الشعبي، لتترجم “وحدة الساحات” تضامناً اجتماعياً مع لبنان يحيّد العراق فيه إلى اليوم عن ساحة الحرب الملتهبة في لبنان وغزة. هكذا اقتصر إسناد الحشد لجبهة الإسناد بواجب “الضيافة”، أما التيار الصدري الذي تكفل بإيواء لبنانيين في محافظات بغداد والبصرة، فسابق خطة حكومة محمد شياع السوداني التي ما زالت في طور إحصاء العائلات اللبنانية لتأمين احتياجاتها، وفق ما يقول وزير الهجرة والمهجرين العراقي علي جهانكير لـ”نداء الوطن”.
لفهم أعمق لواقع النزوح اللبناني إلى العراق قامت “نداء الوطن” بزيارة إلى العاصمة بغداد، للوقوف على أحوال وهواجس مئات العائلات النازحة هناك، وهو ما كشف لنا صورة مغايرة عن أحوال اللبنانيين في كربلاء والنجف. إذ يمكث النازحون في بيوت معدمة في بغداد وسط ظروف عيش صعبة، في حين تغصّ شوارعها بنازحين يتسولون تحت شعار “أنا لبناني.. ساعدوني”.
لكن المفاجأة كانت في رحلة العودة من بغداد إلى بيروت على طيران الشرق الأوسط، التي عجّت بعشرات العائلات غير الآبهة بمخاطر العودة. في السياق تكشف سارة (اسم مستعار لشابة في أواخر العشرينات) عن ريبتها من إجراءات تقييد حركة النازحين في العتبة الحسينية في كربلاء، والتي دفعتها للعودة خشية توطين إجباري مستقبليّ. هذا الهاجس الذي طاردها طيلة فترة النزوح والذي يطارد آلاف اللبنانيين الشيعة اليوم، عبّرت عنه بقولها “ما اطّمنت إلا لمّا صرت في مطار بيروت، عارفة حالي راجعة عالحرب، بس ما في متل ترابك يا لبنان”.
التيار الصدريّ: نحن الضيوف واللبنانيون أهل البيت
سلّط الإعلام الضوء على النازحين إلى كربلاء والنجف لأنهم الأكثر عدداً مع تجاوزهم في كربلاء وحدها 10 آلاف نازح. وبقيت حال النازحين إلى المحافظات الأخرى بعيدة من التغطية الإعلامية.
بدأت رحلتنا في بغداد، عند ناصية شارع حيفا، مقابل وزارة السياحة والثقافة العراقية في الكرخ غرب دجلة، حيث يتمركز بعد أمتار من الوزارة شبان متطوعون يحضّرون بطانيات وملابس لتوزيعها على النازحين، يتوسطهم الحج رعد كرعاوي المعروف “بالقصة كلها”.
“الحج رعد” رجل ستيني، موظف في بلدية بغداد نهاراً، ومتطوع ليلاً “لمساعدة إخواننا اللبنانيين” منذ بدء نزوحهم في أواخر أيلول الماضي للعراق. بابتسامة لا تفارق وجهه، يستجمع قواه، هو مريض بالسرطان، فيقوى على الألم، ليدير خلية النحل المؤلفة من عشرات الشبان المتطوعين من التيار الصدري لتأمين المساعدات والطبابة للبنانيين النازحين في بغداد.
يأخذنا كرعاوي إلى جامع وحسينية الإمام علي حيث الحج حسين حني، مسؤول الفوج الخامس، في اللواء الثاني في سرايا السلام، التابعة للتيار الصدريّ، وهو جغرافياً مسؤول التيار في منطقة الكرخ والذي أمّن زيارتنا للمنازل التي تم إيواء لبنانيين فيها إما بإيجار رمزي أو على نفقة شباب المنطقة.
يستهلّ الحج حسين حديثه بمقولة يرددها زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، الذي ترتفع له صورة فوق مكتب حني، تعلوها صورة للأمين العام لـ “حزب الله” الراحل السيّد حسن نصرالله.
يردّد حني العبارة بقوله “يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل”، فالسيد مقتدى علّمنا أن نبادر بفعل الخير ولا ننتظر أحداً وهو كان أول المبادرين لمساعدة إخوتنا اللبنانيين بافتتاح مضيف لهم في سوريا وأطلق حملة البنيان المرصوص لجمع التبرعات لهم، ونحن بدورنا كنا أول المبادرين بإدخال أول عائلة لبنانية لبغداد واليوم اقتربت أعداد العائلات التي نساعدها من 200 عائلة”.
يشدّد حني على أنّ العمل تطوعي بالكامل إذ “لم تساعدنا الحكومة أو أي جهة رسمية أخرى”. هو يرفض إضفاء الصفة الحزبية على هذا العمل التطوعي “فنحن قاعدة شعبية، نجمع المساعدات من أموالنا الخاصة ومن أولاد المنطقة وزعاماتها، لنساند جيراننا وأحباءنا وإخوتنا في الدين الإسلامي”.
“العائلات تِعبَانين”. يقول حني باللهجة العراقية. فبعد شهر على تأميننا متطلباتهم عبر دفعنا إيجارات منازلهم أو المساهمة فيها، وتوفير الأدوات الضرورية من أجهزة كهربائية وغاز وفرش ومواد غذائية لإعالتهم، نساعدهم اليوم بتدبير أعمال لهم في محاولة لدعم بقائهم مكرّمين معززين في حال طالت الأزمة”.
يتمركز اللبنانيون الذين ساعدهم التيار الصدريّ في الرحمانية والعلّاوي وهي مناطق شعبية فقيرة في بغداد. ويشرح حني “تفضل العائلات السكن قرب بعضها البعض”. الحج حني “صيته سابقه” فهناك لبنانيون يتواصلون معه قبل مجيئهم لبغداد. في السياق يقول: “وجود اللبنانيين هنا وثقتهم بنا شرف لنا، فهم يتعرضون للعدوان الغاشم الإسرائيلي وهم إخوتنا وندعو الله أن يفك عنهم هذا الحصار”.
“مش قعدتي هيدي القعدة”
بعد اللقاء، انطلقنا في موكب مؤلف من سيارتين، حيث زرنا أماكن النزوح في الرحمانية فرع الجامع والتانكي والحيدري وكذلك العلاوي.
الأحياء متشابهة وتتشارك في فقرها المدقع. أما البيوت التي مكث النازحون فيها فغالبيتها طوابق أرضية وهي مبانٍ قديمة، طلاء جدرانها معدم من كثرة الرطوبة، وروائح العفن تفوح من زواياها. ويفترش النازحون الأرض، فيما تسكن في المنزل الواحد عائلتان أو ثلاث.
“مش قعدتي هيدي القعدة” تقول أم هادي، نسرين عبد العال، من بلدة كفرشوبا الحدودية. وبحرقة تتابع: “تراب بلادي أولى تشرب وتنسقى بدمي من قعدتي هون”، موضحة “لقد جئت مرغمة مع زوجي العراقي بعدما فقدت 6 أفراد من عائلتي وسوّي بيتي بالأرض”.
تعدد أم هادي أقرباءها الشهداء “سلام ومحمد عبد العال، إخوتي. حسين، يوسف، وعلي عبد العال، أبناء عمومتي. وهادي وعلي وعمر العقيبي، أولاد شقيقتي، فيما الخوف على من بقي من عائلتي في لبنان، لا سيما بقية إخوتي وأمي في كفرشوبا وأولادي الثلاثة في جب جنين البقاع، الذين بقوا مع طليقي في لبنان”. وتشير إلى الغرفة المظلمة التي باتت “منزلها” الجديد، متحسرةً على بيتها الذي بنته حجراً فوق حجر في كفرشوبا، فهدمته إسرائيل بطرفة عين.
تعود نسرين لتشير إلى المونة التي أمّنها الإخوة العراقيون لها بقولها “الرز بيتعوض بس يكون بلدك بخير وجميل. العراقيون على راسي لكن نحن نصلي لبلدنا ليعود بخير ونتمنى النصر لأننا قدمنا شهداء في لبنان”.
دموع الطفلة رحيل… بانتظار العودة
في غرفة مجاورة، تسكن أم محمد الآتية من بعلبك البقاع، مع زوجها وأولادها الستة، في انتظار عملية طارئة في ظهرها. العائلة علمت منذ أيام فقط أن جزءاً من منزلها تدمر لكنها تعزي نفسها بالقول “الحمدلله الولاد مناح”.
يروي زوجها أبو محمد الذي نزحت عائلته براً عبر سوريا، أسباب اختيار المجيء لبغداد وأبرزها استشفاء أم محمد هنا منذ فترة ولكون أختها متزوجة في بغداد.
يدفع أبو محمد 110 دنانير (قرابة 80 دولاراً) إيجار الغرفة ويقول “كافة حاجياتنا المتبقية وحتى عملية زوجتي، مؤمنة بفضل إخوتنا الحج رعد وشبابه، وأنا اليوم أبحث عن عمل للقدرة على الصمود في حال طالت الأزمة وعازم على تسجيل أبنائي في المدارس العراقية المتاحة”.
بابتسامة دامعة تختصر أم محمد امتنانها بالقول “حسّسنا الإخوة العراقيون كأنهم هني برّا ونحنا جوّا، حتى حسّينا حالنا بلبنان”.
أما وفاء كرومة كانجو، فلا تعرف شيئاً عن مصير بيتها في الضاحية قرب بلدية الغبيري، وتنتظر العودة بفارغ الصبر، وكذلك طفلتها رحيل ابنة الست سنوات، التي جهشت بالبكاء تقول “اشتقت للبنان”.
متسوّلون بين بيروت وبغداد
في سوق الرحمانية، تعترض طريقنا امرأة على كتفها طفل وعلى لسانها عبارة واحدة: “أنا لبنانية ساعدوني”.
نازحو بغداد ينقسمون إلى لبنانيين لديهم أقارب فيها نتيجة زيجات مشتركة، أو أن أحد أفراد عائلتهم استقرّ وعمل في العاصمة العراقية بعد الأزمة الاقتصادية عام 2019، وهؤلاء، في الغالب، من الطبقة المتوسطة الذين يتدبرون نفقاتهم بأنفسهم.
أما الفئات التي تسكن بيوت الرحمانية والعلاوي فأحوالهم المادية فائقة الصعوبة. وتبقى فئة أخرى ممن يساعدهم التيار الصدريّ في بغداد، هم لبنانيون مجنّسون (نور وغجر) بعضهم عائلات متعففة (تظهر مرتاحة غنية)، فيما العشرات منهم يمتهنون مهنة التسول في لبنان، ويمارسونها علانية اليوم على طرقات بغداد مكرسين صورة لا تشبه بلاد الأرز ولا أهلها، بل تشبه حكامها على قاعدة التسول في السلم والحرب استغلالاً لكل الأزمات.
في السياق يعلّق أحد الشبان العراقيين بالقول “توسلنا هذه العائلات للانتقال إلى فنادق درجة أولى في كربلاء قبل امتلاء عتباتها المقدسة بالكامل، ولا نفهم سبب تمسكهم بالبقاء في بغداد، إلا تعطشاً للتسول.
وزارة الهجرة: الضيافة ليست “سياسية”
4500 عائلة لبنانية نازحة، تم تسجيل بياناتها في وزارة الهجرة والمهجرين العراقية إلى الآن. في السياق، يعزو وزير الهجرة العراقيّ، علي جهانكير، عدم وصول الحكومة العراقية لجميع النازحين للمساحة الكبيرة التي توزعوا فيها، وهي تشمل أكثر من 15 محافظة عراقية، موضحاً “بدأنا تسجيل النازحين ضمن قواعد بيانات للجان تابعة لوزارة الهجرة، ويعتمد وصولنا إليهم على اتصالات نتلقاها من أقرباء لهم أو مراكز إيواء، بهدف تسجيل احتياجاتهم لتأمينها في أقرب وقت، فهم ضيوف كما أسماهم رئيس الحكومة محمد شياع السوداني وهذا ما تعكسه إجراءاتنا الحكومية”.
يرفض جهانكير وضع مكوث الغالبية العظمى من النازحين في كربلاء والنجف في خانة الأسباب السياسية لتواجد الحشد الشعبي هناك: “فمحافظات أخرى بدأت استقبالهم كالبصرة وبيسان وبابل، لكن العتبات المقدسة مجهزة ببنية تحتية لاستقبال النازحين، إذ سبق أن نزح إليها العراقيون الهاربون من داعش عام 2014”.
وعن استباق الحشد الشعبي والتيار الصدري لخطة الحكومة التي رصدت 3 ملايين دولار للاستجابة للأزمة، يشرح جهانكير: “إن لجان وزارتنا في طور تحديد وشراء الاحتياجات والتخزين، لكن التوزيع يحتاج إلى وقت، وقد أسعفتنا التبرعات والعتبات والحكومات المحلية بخططها الطارئة، ومكّنتنا من وضع رؤية منظمة للاستجابة للنزوح”.
في الموازاة، لم يغب النزوح بهدف التسول عن وزارة الهجرة العراقية، إذ يغمز جهانكير من قناة “ضعفاء النفس” ممن أتوا من مناطق آمنة ويزاحمون عائلات محتاجة فاقدة بيوتها وأعمالها، محذراً من “أننا لا نميز على أساس عرقي لكن أماكن الاستهداف واضحة في لبنان”.
وعن هواجس التوطين يطمئن إلى أن “الحكومة العراقية صنفت النازحين اللبنانيين “ضيوفاً”، وهم ضيوف لفترة محدودة ونجتهد لإعادتهم في أقرب وقت ممكن، فعودتهم إلى لبنان حق لهم فيما بقاؤهم في الشتات يؤلمنا”.
محافظة كربلاء: تعليم جامعي مجاني
في محافظة كربلاء تأكيد على “أنها وفرت كعتبات مقدسة حسينية وعباسية وحكومة محلية في كربلاء مدناً للزائرين وفنادق درجة أولى مع وجبات طعام كاملة مع توفير العلاج للأمراض المزمنة التي يحتاجها الإخوة اللبنانيون، وكذلك وجّه المحافظ المهندس ناصيف جاسم الخطابي بعلاجهم مجاناً وتأمين أدوية الأمراض المزمنة لهم. كما أن التعليم مؤمن في المدارس وفي الجامعات الأهلية والحكومية بشكل مجاني فهم ضيوف عندنا واللبنانيون بالذات لديهم محل احترام وتقدير لدينا وهذا أقل الواجب” تضيف المصادر.
لبنانيون عائدون: العراق لا يشبهنا
الخوف من توطين النازحين اللبنانيين في العراق بات هاجساً يطارد الكثيرين بشكل يومي، وهو ما دفع بالآلاف منهم للعودة إلى لبنان رغم اشتداد الحرب فيه.
في رحلة العودة على طيران الشرق الأوسط، عائلات كاملة مع أطفالها نزحت في الحرب وتعود في أوجها. سارة (اسم مستعار) شابة من العائدين، ما إن وصلت إلى مطار بيروت حتى انفرجت أساريرها بالقول “ما في متل ترابك يا لبنان”.
تروي سارة تجربتها: “ذهبت إلى كربلاء لأشارك صديقتي السكن في العتبة الحسينية بعدما نزحت وعائلتي من منزلنا في الضاحية، لكنني لم أتأقلم مع الثقافة العراقية المختلفة اختلافاً جذرياً عن ثقافتنا”.
تجربة سارة عززتها حوادث فردية لعراقيات أبدين انزاعجهنّ من اللبنانيين النازحين الى العتبة الحسينية. وتروي إحدى الحوادث “في البارك حيث هناك مقاعد للإستراحة حيث نقطن، مرت مجموعة نساء عراقيات، قلن لي ولرفيقتي في السكن تهكماً “يلاّ حبيباتي رح نفل من عندكن”.
في المقابل، تشيد بالمعاملة فائقة الإنسانية من قبل منظمي النزوح في العتبة والشعب العراقي عموماً، من دون أن تخفي أنّ السبب الحاسم في عودتها في أوج الحرب كان خوفها من التوطين القسري للشيعة اللبنانيين.
تقول: “رافقني شعور مستمر بانعدام الطمأنينة، فأبسط الإجراءات الأمنية للحشد الشعبي كوضع جدول لدوامات خروجنا ودخولنا، كنت أعتبره تقييداً مرجحاً للتفاقم، وباتت تراودني أفكار مثل مصادرة جواز سفري وعدم ضمان عودتي لبلدي ساعة أريد، وصولاً لخوفي من التوطين الإجباري، عدا عن خشيتي من توسع الحرب لتطاول العراق فأتعرض لأهوال الحرب في بلد غريب”.
يبقى المؤكد وهو أن قرابة 80% من أصل 22 ألف نازح لبناني إلى العراق يحسبون الأيام للعودة