في خضم الأزمة المستمرة واتساع دائرة الحرب بين حزب الله و “إسرائيل”، يتضح يوما بعد يوم أن الخطط التربوية التي كانت تُطرح قبل اندلاع النزاع، قد انهارت تماما مع تصاعد وتيرة القتال وتهجير أكثر من مليون وأربعمائة ألف لبناني من المناطق المتأثرة. فمع امتداد الأعمال العسكرية، انكشف ضعف الإجراءات التي تبنتها الوزارات المعنية، وعلى رأسها وزارة التربية، حيث تبيّن أن التصريحات المتفائلة حول استعدادات العام الدراسي، لم تكن سوى محاولات لتهدئة الرأي العام، دون وجود مشاريع واقعية تلبي احتياجات الطلاب والمعلمين النازحين.
اليوم، ومع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية، بات من الصعب الوثوق بالمزاعم التي تروجها حكومة تصريف الاعمال، والتي يبدو أنها فقدت السيطرة على إدارة الوضع التعليمي في ظل الأزمات المتتالية. التجهيزات التي كانت تُقدّم على أنها كافية لدعم التعليم الرسمي، أصبحت مكشوفة كتصورات غير قابلة للتنفيذ، مما يترك آلاف التلاميذ والاساتذة في حالة من الضياع والقلق حول مستقبلهم التعليمي في الأيام والأسابيع المقبلة.
تكشف المعلمة كاتيا لـ “الديار” انه “مع اقتراب العام الدراسي الرسمي، لا تزال آليات التعليم والتسجيل للطلاب والمعلمين النازحين غير جليّة في ظل الاعتداءات “الاسرائيلية” الحالية، على الرغم من اعلان وزارة التربية ان التحضيرات للعام الدراسي الجديد على قدم وساق، والإقبال على الرابط الإلكتروني الخاص بالتسجيل جيد، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى تخبط كبير”.
وتضيف : “كما يعبر المعنيون في المدارس عن استيائهم من غياب برامج شفافة للتعامل مع الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، بخاصة في ما يتعلق بمراكز الإيواء والمدارس التي أصبحت غير قادرة على استقبال الطلاب بالشكل المعتاد”.
تحديات تسجيل الطلاب
وتتابع “على الرغم من ان موعد انطلاق العام الدراسي في 4 تشرين الثاني المقبل، الا ان هناك الكثير من الأسئلة المرتبطة بتسجيل الطلاب النازحين. إذ تبدو القرارات الصادرة عن “التربية” غير صريحة بالنسبة الى جميع الأطراف المعنية. يواجه المديرون التربويون في مختلف المناطق اللبنانية، بخاصة في مراكز الإيواء التي تستضيف المهجرين، عقبات في فهم طرق التسجيل والاندماج في المدارس القريبة من مواقع اللجوء. وتبرز هنا عدة تساؤلات من أولياء الامور حول المكان الذي سيتسجل فيه الطالب، وكيف سيتم تقييمه تعليمياً، وهل ستوفر الوزارة حلولًا للتعليم عن بُعد مثل حسومات على باقات الإنترنت”؟
وفي الإطار، تشير المعلمة إلى “أن عدد النازحين الذي بات يفوق المليون وأربعمائة ألف، يزيد من صعوبة تأمين بيئة تعليمية ملائمة، في ظل تحويل 620 مدرسة في لبنان إلى مخيمات إيواء، مما يعني أن هذه المؤسسات لم تعد قادرة على أداء دورها التعليمي بشكل طبيعي. إضافة إلى ذلك، تعرضت أكثر من 400 مدرسة أخرى لأضرار مباشرة نتيجة الاعمال العسكرية”.
دجيلان متنافران!
من جهتها، تعتبر مصادر في وزارة التربية “أن التعليم عن بُعد، الذي كان يُنظر إليه كخطة بديلة للتعليم الحضوري في ظل الأزمات، قد أثبت هشاشته مع تفاقم الوضع الأمني وتمدد رقعة الحرب. لذلك، فإن تطبيق هذه الخطة ليس سوى محاولة لإبقاء التعليم على قيد الحياة، إلا أنها تفتقر إلى البنية التحتية والتجهيزات المناسبة في معظم المناطق اللبنانية، بخاصة تلك التي تستضيف النازحين، حيث تفتقد توافر الإنترنت والأجهزة الضرورية لتفعيل التعليم الالكتروني”.
وتوضح المصادر لـ “الديار” قائلة: “اليوم، نحن أمام مشهد تعليمي متشظٍ، حيث ينقسم الطلاب إلى فريقين مختلفين تماما من حيث الحظوظ التعليمية. فمن جهة، هناك الفريق الذي ينتمي إلى المدارس الخاصة الواقعة في المناطق الآمنة، والتي تتابع التعليم الحضوري بشكل منتظم، مما يضمن لطلابها استمرارية تحصيلهم وتخرجهم دون انقطاع. ويملك هذا الفريق الموارد اللازمة للنجاح، سواء من ناحية البنية التحتية أو التجهيزات التقنية”.
وتتابع “في المقابل هناك الفريق الآخر الذي يعيش حالة من الغموض والتشتت، ويشمل الطلاب الذين يوجدون في المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، وأولئك الذين غادروا مع عائلاتهم من المناطق المتأثرة بالاعتداءات العسكرية. هؤلاء يواجهون صعوبات مضاعفة، سواء بالنسبة الى الحضور الجغرافي في أماكن غير مؤهلة للتعليم، أو من حيث فقدان الاتصال المستمر مع مدارسهم الأصلية”.
وتؤكد “ان تحويل المدارس إلى مراكز إيواء يزيد من صعوبة تطبيق أي خطة تعليمية، حضورية كانت أم عن بُعد، نظرا للاكتظاظ وغياب التركيز على التدريس في ظل تلك الظروف. ومع استمرار الاشتباكات، يصبح من الواضح أن المستقبل التعليمي لهذا الفريق مجهول تماما. فبينما تستمر المدارس الخاصة في المناطق الآمنة في دعم طلابها، يُترك هذا الفريق من الطلاب بلا خطة واضحة، مما يثير التساؤلات حول إمكان تحقيق أي تقدم تعليمي في ظل تلك البيئات”.
الـ “أونلاين” تحت المجهر
وتستكمل المصادر “يواجه التعليم عن بُعد عقبات هائلة تجعله غير قابل للنجاح. فالبنية التحتية التكنولوجية ضعيفة بشكل عام، والإنترنت بطيء ومتقطع، كما أن الانقطاع المتواصل للكهرباء يعرقل أي إمكان لمتابعة الدروس الإلكترونية بشكل منتظم. وهناك العديد من العائلات اللبنانية لا تمتلك الأجهزة اللازمة مثل أجهزة الكومبيوتر أو الأجهزة اللوحية، خاصة مع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعصف بالبلاد، ما يحرم اولادهم من حقهم في الوصول إلى التعليم. إضافة إلى ذلك، هناك تفاوت كبير بين الطلاب، حيث إن الذين نزحوا جراء الحرب أو يعيشون في المناطق الريفية يفتقرون إلى الموارد الضرورية للتعلم عن بُعد، مما يفاقم الفجوة التعليمية”.
وتضيف المصادر “لم يحصل المعلمون في لبنان على التدريب المناسب للتكيف مع تقنيات التعليم الإلكتروني، وهم أنفسهم يعانون من غياب التجهيزات اللازمة. وسط هذه الأزمات المتداخلة، من الصعب تأمين خطة تعليمية متكاملة تشمل الجميع، خاصة مع غياب الدعم الحكومي الكافي، والتدخلات الفعالة التي يمكن أن تضمن استمرارية التعليم بشكل متساوٍ. وهذا يجعل التعليم عن بُعد في لبنان حلماً بعيد المنال لمعظم الطلاب، ويعمق الفوارق التعليمية بين الفئات المختلفة”.
بدورها، تتساءل أوساط اكاديمية في منطقة بيروت عن جدوى التعليم “أونلاين” كبديل في ظل الأزمة الراهنة. بينما يدعو بعض المديرين إلى وضع خطة شاملة لتوزيع الطلاب والمعلمين بناءً على احتياجات كل منطقة، إلا أن التباين في الإمكانات بين المدارس لا يسمح بتنفيذ هذا النوع من التعليم على نطاق واسع. يثير ذلك هواجس كبيرة حول جودة التعليم، خصوصا إذا ما تم تكديس المعلمين في مدارس قريبة من مراكز الإيواء دون وجود توزيع عادل”.
النزوح يستحكم بالمدارس
من جانبه، يوضح مصدر سياسي متابع لملف التعليم في المدارس الرسمية لـ “الديار” ان “النزوح الجماعي الذي أحدثته الحرب الحالية تسبب في إرباك كبير للقطاع التعليمي. اذ نزح أكثر من 36 ألف معلم من مناطقهم، إلى جانب تهجير نحو نصف مليون تلميذ. وقد تحول قسم كبير من المدارس إلى مراكز استضافة، مما جعل بعضها غير صالح لمتابعة التدريس. فضلا عن ان التعليم في المناطق الأكثر تأثرا بالحرب تعطل بشكل كامل، ما ضاعف من الأعباء على المدارس في المناطق الأخرى التي تستقبل النازحين”.
ويستكمل المصدر “من ناحية أخرى، تواجه المؤسسات التربوية القريبة من مراكز الإيواء اختبارا كبيرا في استيعاب الأعداد الكبيرة من الطلاب النازحين، حيث تشير التقارير إلى أن الطاقة الاستيعابية للمدارس في بعض المناطق قد تجاوزت الحد الأقصى، مما يزيد من احتمال تعطيل التعليم أو جعله غير مجدٍ”.
ويختم المصدر “يبقى التحدي الأكبر في كيفية تنفيذ هذه الاستراتيجيات، فمع تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، يجب أن تكون هناك رؤية واضحة وقوية لكفالة أن يكون التعليم حقا للجميع، وليس مجرد امتياز لفئة معينة”.