في ظل الحرب والأزمات.. مشاريع مهنية تُعيد الأمل وتحوّل المهارات إلى مصادر رزق…
بالرغم من الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان منذ ما يقارب الأربع سنوات، من انهيار سعر صرف العملة الوطنية إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لم يستسلم اللبنانيون أمام هذه التحدّيات. بل على العكس، أظهروا قدرة فائقة على التكيّف والابتكار، مسخّرين إمكانياتهم في خلق فرص عمل جديدة، سواء عبر الحرف اليدوية، التسويق الإلكتروني، أو التجارة عبر الإنترنت. إلّا أن الحرب المستمرة بين إسرائيل وحزب لله أضافت طبقة جديدة من المعاناة، لتزيد من تفاقم الأوضاع المعيشية والنقدية، وتهدّد استقرار المواطنين.
وسط هذه المآسي، يثبت اللبنانيون مرة أخرى أن التضامن والتكاتف يشكّلان طوق نجاة في أوقات المحن. وخلال جولة ميدانية قامت بها «اللواء» على عدد من مراكز إيواء النازحين من الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع، انبثقت مشاريع ملهمة تستحق تسليط الضوء عليها، والتي لا تقتصر على تلبية الاحتياجات الآنية للنازحين فحسب، بل تسعى إلى تمكينهم مهنياً وتزويدهم بمهارات قابلة للتطوير، مما يمهّد الطريق أمامهم لإقامة مشاريع خاصة مستقبلاً.
من أبرز هذه المبادرات، مشروع «تمكين المرأة» الذي يدعم النساء في أوقات الأزمات من خلال تعليمهن حرفاً متنوعة، مثل تصليح الملابس وصناعتها باستخدام الأقمشة المعاد تدويرها. لا يكتفي هذا المسعى بإيجاد حلول سريعة لمتطلبات الحياة اليومية، بل يفتح آفاقاً اقتصادية طويلة الأمد أمام المستفيدات، ليصبحن قادرات على الاعتماد على أنفسهم مستقبلاً في مواجهة أي أزمات مشابهة.
في ظل هذه الظروف القاسية، تظهر مثل هذه التحركات أهمية الابتكار والإرادة الفردية في تحويل المحن إلى فرص، ما يعكس صمود اللبنانيين وقدرتهم على تحويل التحديات إلى قصص نجاح تنبض بالأمل.
إطار العمل: دعم المرأة والطفل
في هذا السياق، تتحدث رئيسة جمعية «Recreate» السيدة نسرين شمص عن أهمية «دعم المرأة والطفل في الأزمات عبر تلبية احتياجات المواطنين النازحين، وتمكين المرأة مهنياً في وقت الحرب، وتزويدها بالمعلومات اللازمة للاعتماد على مهارات وطرق مبتكرة وسريعة في تصليح الملابس وصناعة الثياب باستخدام الأقمشة المعاد تدويرها، إضافة إلى إقامة أنشطة هادفة للأطفال النازحين».
وتقول لـ «اللواء»: «في البداية، كانت هذه الجهود عبارة عن فترة تطوع مع أسرة Zero Waste Community وRoots. مررنا بعدة محطات في المدارس الرسمية، ومن بعدها انطلقت مبادرة خاصة للوضع الطارئ، ضمن إطار نسيج الأمل وRecreate Lebanon، حيث نفذنا عدة ورش فنية هادفة في مدارس الشوف الأعلى والشوف الأوسط. وتجدر الإشارة الى انه لمسنا من خلال هذه الأنشطة الحاجة الملحّة لتأمين بعض الضروريات التي يمكن تقديمها للمهجرين».
جوهر المبادرة
وتكشف شمص أن «المشروع التدريبي يقوم على التنسيق مع الجهات المعنية، مثل مديري المدارس والمسؤولين عن خلايا الأزمة. وقد عملنا على تأمين المواد الأساسية والضرورية التي تساعد على استدامة المشروع وتنفيذه في مدارس أخرى. كما يرنو إلى توفير فرص عمل بديلة للمدربين والمساعدين، وهو أمر ملحّ في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة. لذلك، يركّز على تقديم حلول اجتماعية، اقتصادية، وبيئية مستدامة، ما يساهم في خلق فرص عمل حقيقية للنازحين والسكان المحليين في المناطق التي يتم فيها التدريب».
وتضيف «يتم التنسيق في هذا الإنجاز مع وزارة الشؤون الاجتماعية، والمدارس، والمراكز المتبنية للنازحين، والجمعيات، والنوادي، ومجموعة من السيدات الفاعلات في الشوف. أما الجهة الداعمة للمشروع بشكل مباشر فهي شركة وردة للأقمشة، التي وزعت أكثر من 20 ألف حرام على المناطق المستضيفة للنازحين منذ بداية الحرب، حيث كانت تغطي أسبوعياً معظم احتياجاتنا لتلبية متطلبات النازحين من أغطية فرش، أوجه مخدات، وغيرها من الأغراض».
وتوضح أن «مبادرة نسيج الأمل وRecreate Lebanon بدأت منذ الأسبوع الأول للحرب بتأمين ضروريات الناس، حيث كنا ننتج ما بين 500 و1000 قطعة أسبوعياً من مختلف الأصناف. بدعم من Warradit من وردة وSitt Nayla، والمصممين اللبنانيين في الخارج، بالإضافة إلى أصدقاء المبادرة، وبهذا استطعنا توسيع نطاق الإنتاج ليشمل مناطق خارج الشوف، صيدا، بيروت، البقاع، الشمال، أعالي المتن، وغيرها من المناطق».
مهمة المشغل المتنقّل
وتشير شمص إلى أن «المشروع يضم مشغلاً متنقّلاً يهدف إلى نشر الوعي الفني والبيئي في مجال تصميم وتنفيذ الأزياء والحاجيات الحيوية. يشمل صناعة أزياء عملية، حقائب، أغطية، وغيرها. يترافق ذلك مع جلسات فنية للأطفال ينظمها فريق نسيج الأمل، حيث يتعلم الأطفال كيفية فرز النفايات النسيجية والورقية، وصناعة دفاتر ومقالم خاصة بهم».
وتوضح أن «المشروع يطمح إلى جمع النازحين مع مدربين محليين من المناطق المستضيفة، واخترنا في الشهر الأول مجمع المدارس، وذلك بعد موافقة وزارة الشؤون الاجتماعية ومديرة مدرسة شحيم الرسمية السيدة آمنة الحاج، التي وفّرت كل المستلزمات المطلوبة لتنفيذ هذا المشروع الإنساني والاجتماعي والبيئي الهادف. وقد تجاوزت ساعات التمارين العملية الشهرية في كل مدرسة 40 ساعة، بينما تفاوت عدد المتدربين من مدرسة الى أخرى. يشرف على التدريب في مجال التفصيل والخياطة الصناعية وإعادة التدوير فريق عملي، الذي يمتلك سنوات من الخبرة تمكنه من مواجهة هذه الملحمة الشعواء بكل وعي ومسؤولية».
البرنامج التدريبي
وتشرح شمص، «تتركّز مهمة المشغل المتنقّل على التأهيل المهني للنساء النازحات، وتمكينهن من اكتساب مهنة تتيح لهن لاحقاً تحقيق مردود مالي ودعم معنوي، ليشعرن بأنهن جزء من الحل في الأزمات. يتضمن البرنامج: تدريبا على التفصيل وصناعة الباترونات، والخياطة الصناعية، وكيفية استخدام الماكينات، ومقدمة عن أنواع الأقمشة والمنتجات الضرورية في الأزمات، وتوجيه على أخذ القياسات وتصميم الملابس الداخلية وملابس النوم. وبذلك، تكون مهمتنا الأساسية هي ارشاد النساء لمواجهة التحديات بابتكار الحلول المناسبة والمتوفرة في مجال صناعة الأزياء».
رؤية الى المستقبل
وتتابع: «نتطلّع في هذا المخطط الى الأيام المقبلة ومدى فاعليته، حيث يمكن لكل امرأة متدرّبة أن تصبح نواة لمؤسسة صغيرة ناجحة، سواء على صعيد الإنتاج المحلي في قريتها أو على المستوى العام. بعد التدريب، تستطيع المرأة الحصول على فرصة عمل تدعم من خلالها عائلتها، وتنقل ما تعلّمته إلى محيطها، ما يخلق تأثيراً إيجابياً واسع النطاق».
التحدّيات والاحتياجات
وتستكمل «عمل فريقنا على تخصيص غرفة كمشغل ثابت في المدرسة، لكن الحاجة إلى الغرف لإيواء النازحين دفعتنا الى تنفيذ الأنشطة بشكل مؤقت في ملاعب المدرسة أو مداخلها. نأمل تنفيذ الفكرة لاحقاً، ونعمل حالياً مع نادٍ فاعل في المنطقة لإقامة دورات تدريبية مماثلة تؤمّن فرص عمل وتلبّي حاجات النازحين والسكان المحليين».
وتختتم شمص قائلة: «تشمل المتطلبات الأساسية للمضي بالمشروع، تأمين المواصلات للمدربين، صيانة الماكينات بعد كل تدريب، توفير آلية متوسطة الحجم لنقل الأقمشة من بيروت إلى الشوف، وتنظيم أنشطة ترفيهية للأطفال، مثل صناعة الدمى والمسرحيات. لتحقيق ذلك، نحتاج إلى ميزانية خاصة، ونتمنى أن تنتهي هذه الحرب بأقل الأضرار، لنستمر في العمل على أمل بناء غدٍ أفضل».
شهادات من الميدان
في سياق متصل، تروي احدى السيدات لـ «اللواء» قائلة: «أنا نازحة من جنوب لبنان بسبب الحرب، عندما وصلت إلى مركز الإيواء، شعرت بالضياع، ولم أكن أعرف كيف يمكنني مساعدة عائلتي، خاصة أن الوضع المادي أصبح أكثر صعوبة. ولكن عندما انضممت إلى مشروع إعادة التدوير وتصليح الملابس، أدركت أن حياتي بدأت تستعيد معناها. تعلمت كيفية إصلاح الملابس وإعادة استخدامها بدلًا من التخلص منها، وأصبحت أساعد جيراني في المركز في هذه المهمة. لم يمنحني هذا العمل مهارة جديدة فحسب، بل جعلني أشعر أيضا بأن لي دورا مهما، وربما أتمكن في المستقبل من افتتاح متجر صغير في هذا المجال».
وتقول الآنسة زهراء (اسم مستعار)، «كنت أتابع دراستي الجامعية قبل أن نضطر إلى ترك منزلنا بسبب القصف. وعندما بدأت التدريب في المشروع، اكتشفت أنني أمتلك القدرة على الإبداع في شيء كنت أعتبره بسيطا، مثل إصلاح الملابس. المدربون في المشروع علمونا تفاصيل دقيقة، بدءا من اختيار الأقمشة المناسبة إلى أساليب التدوير. شعرت بأنني أحقق شيئًا ذا قيمة بدلًا من البقاء دون هدف، وأصبح لدي أمل في أن تساعدني هذه المهارة في بناء مستقبلي بنفسي».
ويقول الطفل كريم (11 عاما): «أحب أن أساعد أمي في كل شيء، وعندما بدأ التدريب في مركز الإيواء، قررت أن أتعلّم كيف أبتكر حقيبة من ملابسي القديمة، إذ من الرائع أن يصنع الإنسان أشيائه الخاصة بيديه».
وتعبّر الطفلة ليلى (8 سنوات) عما تقوم به قائلة: «كنت أرغب في تعلم كيفية تجهيز أشياء جديدة من الازياء القديمة. عندما بدأنا التدريب، علمتنا المشرفة آلية قص الأقمشة من أجل صناعة الدمى. الآن، قمت بتفصيل مريول صغير للعبتي، وأشعر بالفخر لأنني نفذته بنفسي».
وتؤكد مديرة احدى المدارس ان «هذا المشروع يمثل خطوة ضرورية وملهمة في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها. نحن لا نؤهّل الناس لتصليح الملابس فحسب، بل نزرع فيهم فكرة الاعتماد على النفس وإعادة استخدام الموارد المتاحة. مثل هذه المبادئ تمكّن العائلات من مواجهة أعباء الحياة بأدوات بسيطة، وتفتح أمامهم فرصا مستقبلية لتأسيس مشاريعهم الخاصة، مهما كانت صغيرة. وتؤكد ان الإرادة أقوى من كل التحديات، وأن لكل شخص القدرة على تحويل أبسط الموارد إلى مصدر رزق وكرامة».