الراي الكويتية
لم تَكُنْ طائرةُ البابا ليو الرابع عشر غادرتْ لبنان بعد، في ختام زيارةٍ تاريخيةٍ استمرت 3 أيام، حين تَطايرتْ التحذيراتُ من اقتراب إسرائيل من تصعيد «الأيام القتالية» الذي يُسابِق «أياماً دبلوماسيةً» مكثّفةً في اتجاه بيروت كأنها آخِر محاولاتٍ لتفادي… الأعظم.
وجاءتْ مَشهديةُ وداع البابا في مطار رفيق الحريري الدولي بعد القداس الحاشد الذي تَرَأّسه عند الواجهة البحرية لبيروت، محمّلةً بأبعاد امتزج فيها الوجداني بالسياسي وأطلّت «بين السطور» على ما يُخشى أنه ينتظر لبنان بعد الزيارة البابوية التي احتجبتْ معها «علاماتُ الحرب» خَلْفِ شعار السلام الذي رسّم ليو مَعالمه في آخِر الكلام.
فالبابا الذي جاهَرَ بأن «المغادرة أصعب من الوصول»، بدا وكأنه يقول «قلبي مع لبنان وعليه» متعمّداً تظهير «الرابط العاطفي» الذي أرستْه الزيارةُ بينه وبين «بلاد الأرز» عبر رسالةٍ صوتيةٍ من الجوّ شكر فيها الرئيس جوزف عون والشعب اللبناني على الترحيب الحار ومؤكداً أنه سيستمرّ بالصلاة «من أجل سلام ووحدة وازدهار وطنكم».
بدوره عَكَستْ الكلمة الوداعية لعون ضِمْناً القلق مما يكمن للبنان، متمنياً على البابا «أن نكونَ دائماً في صلواتِكم، وأن تتضمّن عظاتُكم لكلِّ مؤمنٍ ومسؤولٍ في هذا العالم التأكيدَ على أنَّ شعبَنا شعبٌ مؤمنٌ يرفض الموتَ والرحيل، شعبٌ مؤمن قرر الصمودَ بالمحبةِ والسلامِ والحق. شعبٌ مؤمنٌ يستحقُ الحياةَ وتليقُ به»، ومعلناً «نودّع أباً حمل إلينا طمأنينةً وذكّرنا بأن العالم لم ينسَ لبنان، وأن هناك من يصلّي لأجله ويعمل من أجل السلام».
وفي الوداع الرئاسي الجامع بَلْوَرَ البابا بعض مَضامين السلام الذي كان جوهر زيارته متناولاً للمرة الأولى الوضع في جنوب لبنان خصوصاً، آملاً «أن نُشْرِكَ الشرق الأوسط كله في الالتزام لصالح السلام والأخوة، بما في ذلك من يُعتبر اليوم عدواً».
وإذ شبّه اللبنانيين في قوّتهم بـ «أشجار الأرز»، حيّا «جميع مناطِقِ لبنان التي لم أتمكَّن من زيارتها: طرابلس والشمال، والبقاع والجنوب، الذي يعيش بصورة خاصّةٍ حالة من الصراع وعدم الاستقرار»، مطلقاً «نداءً من كل قلبي: لتتوقف الهجمات والأعمال العدائية. ولا يظنّ أحد بعد الآن أن القتال المسلّحَ يجلب أَيَّ فائدة. فالأسلحة تقتل، أمّا التفاوض والوساطة والحوارُ فتَبني. لِنَختَر جميعاً السّلامَ وليَكُن السّلامُ طريقنا، لا هدفا فقط! ولِنَتَذَكَّرُ ما قاله لكم القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني: لبنانُ َأكثرُ من بلد إنّه رسالة! بارك الله شعب لبنان، والشرق الأوسط».
وكان ليو الرابع عشر اختتم زيارته بترؤسه القداس الإلهي الذي أقيم على الواجهة البحرية لبيروت وسط حضور أكثر من 130 ألف شخص، وذلك بعد محطتين، واحدة مؤثّرة جداً حيث أدى صلاةً صامتة في موقع انفجار مرفأ بيروت على نية الضحايا والتقى بعض ذويهم، وثانية لم تقلّ رمزية في مستشفى ديرالصليب (للأمراض النفسية).
وفي عظته أمام «طوفان الناس» توقف البابا عند «مشاكل كثيرة تعانون منها» وبينها «سياق سياسي هشّ وغير مستقر، غالباً، وأزمة اقتصادية خانقة ترزحون تحت عبئها، وعنف وصراعات أعادت إحياء مخاوف قديمة»، داعياً إلى «ألا نصاب بالإحباط، وألا نرضخ لمنطق العنف ولا لعبادة صنم المال، وألا نستسلم أمام الشر الذي ينتشر».وتابع «يجب أن يقوم كل واحد بدوره، وعلينا جميعاً أن نوحد جهودنا كي تستعيد هذه الأرض بهاءها. وليس أمامنا إلا طريق واحد لتحقيق ذلك: أن ننزع السلاح من قلوبنا، ونُسْقِط دروع انغلاقاتنا العرقية والسياسية، ونفتح انتماءاتنا الدينية على اللقاءات المتبادلة، ونوقظ في داخلنا حلم لبنان الموحد، حيث ينتصر السلام والعدل، ويمكن للجميع فيه أن يعترف بعضهم ببعض إخوة وأخوات».
وكانت الرسالة الأهمّ والمدجّجة بالمعاني متعددة البُعد بإعلان البابا «يا لبنان، قم وانهض! كن بيتا للعدل والأخوة! كن نبوءة سلام لكل المشرق»، قبل أن يكمل في نداءٍ قبل نهاية القداس ترسيم المعاني السياسية إلى جانب الراعوية لزيارته، إذ «رغبتُ في أن أكونَ حاجاً للرّجاءِ في الشّرقِ الأوسط»، متوجهاً إلى مسيحيي المَشرِق «لْنَدعُ الجميعَ إلى أن يسيروا على طريقِ الأخوّة، والسّلام. كونوا بُناةَ سلامٍ، ومُبَشِّرِي سلامٍ، وشهودَ سلامٍ».
وأكد أن «الشّرقُ الأوسط بحاجةٍ إلى مواقِفَ جديدة، لرفض منطق الانتقام والعنف، ولتجاوزِ الانقسامات السياسية والاجتماعية والدينية، ولفتح صفحات جديدة باسم المصالحةِ والسلام. سلَكنا طريق العداء المتبادل والدّمار في رُعبِ الحروبِ زمناً طويلاً، وها نحن نشهدُ جميعاً النّتائجَ الأليمة لذلك. علينا أن نُغَيِّرَ المسار، ونُربّي القلب على السّلام».
وتابع: «أُصلِّي بشكلٍ خاصّ مِن أجلِ لبنان الحبيب! وأجدِّدُ ندائي إلى المجتمعِ الدَّوليّ ألَّا يُدَّخِرَ أيَّ جَهدٍ في تعزيزِ مساراتِ الحوارِ والمصالحة. وأُوَجِّهُ نداءً مِن كلِّ قلبي إلى كلِّ من أُوكِلَت إليهم المسؤوليّةُ السّياسيّةُ والاجتماعيّة، هنا وفي جميعِ البلدانِ التي أنهَكَتها الحروبُ والعنف: أُصغوا إلى صراخِ شعوبِكم التي تَطلُبُ السّلام!».
ومن الطائرة التي أقلّتْه إلى روما، ورداً على سؤال لمحطة «إل بي سي آي» حول إيصال صرخة اللبنانيين إلى الرئيس دونالد ترامب للمساهمة في وضع حد للاعتداءات الاسرائيلية، قال البابا «تواصلت وسأواصل التواصل مع القادة لإحلال السلام»، معتبراً «أن السلام الدائم ممكن ونسعى الى ذلك عبر ديبلوماسيتنا».


