تعاني القطاعات الحيوية في لبنان من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة، حيث يطلق العاملون بها صرخات استغاثة، وهو واقع يعيشه القطاع التربوي.
فقد بات الأساتذة، الذين كما يُقال هم “مربو الأجيال”، يبحثون اليوم عن مهرب خارج البلاد أو عبر الانتقال إلى مهنة أخرى.
ليس هناك من رقم محدد للأساتذة الذين تركوا المهنة ورحلوا عن لبنان، أو تركوها للبحث عن لقمة عيش في قطاع آخر يستطيع أن يؤمّن لهم قوتاً أكثر مقارنة بالتعليم، حتى لو كان الفارق ضئيلا، إلا أنهم يفضلون اليوم البحث عن “ربطة خبز زيادة”، وهو طموح كثيرين، كانوا إلى الأمس يتنعمون بشيء من الرفاهية التي اختفت بلمح البصر.
ومنذ سنوات يُطالب الأساتذة بزيادة على أجورهم، وتختلف المطالبة من التعليم الأساسي إلى الثانوي والجامعي فالمهني، وكانوا قد حصلوا، عام 2017، على زيادة تراوحت نسبتها بين قطاع وآخر، بمعدل بلغ 65 في المئة زيادة للقطاع التربوي بعد أن تحصلت الدولة ثلاث مرات من جيب المعلمين فيما سُمي “ضرائب على السلسلة”.
“العمل في السخرة”!
يقول الأستاذ في التعليم الثانوي، حسن مظلوم، في حديث لموقع “الحرة”: “خلال الانهيار المالي والاقتصادي الذي نعيشه اليوم في لبنان، صارت قيمة رواتب المعلمين في أدنى مستوى. تتراوح للثانوي بين 120 و200 دولاراً. يعني أنا الأستاذ اليوم يعمل في السخرة. هذا الأستاذ لكي يصل إلى عمله يحتاج إلى بنزين، التي سار سعر التنكة يُقارب 100 ألف ليرة، ما يعني أن الأستاذ كي يصل إلى عمله، سيدفع راتبه كلّه على مصروف الوقود”.
يُضيف مظلوم، بنبرة فيها الكثير من الغضب: “تعرض أحد زملائنا إلى عارض صحي استدعى دخوله المستشفى. فارق صندوق التعاضد الذي دفعه بلغ 31 مليون ليرة، أي ما يوازي راتب سنتين ونصف السنة. هذا هو واقع الأستاذ اليوم، مرمي مثل كل اللبنانيين ولا يعرف ماذا يفعل. الأستاذ اليوم غير قادر على أن يشتري جوارب. هذا ما أوصلتنا إليه هذه المنظومة”.
انهيار القطاع!
يقول مظلوم: “أنا أستاذ مدرب، أي أنني أعلم الأساتذة الذين سيدخلون القطاع التربوي. الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر لديهم هو الاحترام والترتيب. اليوم ليس هناك من أستاذ غير مديون وغير هارب من جاره وقريبه ودكان الحي، الذين كلهم يريدون منه المال لأنه اضطر أن يستدين كي يعيش. وصلنا إلى القعر”.
وخسر الأستاذ 90 في المئة من قيمة راتبه، فمثلاً كان معدل راتب أستاذ التعليم الثانوي قبل سنتين، حوالي 3 ملايين ليرة، أي ما يقارب الألفي دولار، اليوم وبعملية حسابية بسيطة تبلغ قيمة راتبه أقل من 200 دولار.
برأي مظلوم أن “هذا الواقع سينعكس حكماً على جودة التعليم، فكيف نطلب من الأستاذ أن يعطي من وقته وجهده ويربي الأجيال وهو غير قادر على أن يُعيل نفسه؟ وكل الوقت يُفكر ماذا سيعمل إلى جانب التعليم كي يستطيع أن يحيا الشهر كاملاً دون أن يجوع. اليوم الغالبية تُفكر بالرحيل ومن سيحصل على فرصة في الخارج لن يُفكر مرتين. بين الذل والهرب، الخيار واضح للجميع”.
“لم يعد لدي ما أخسره”، يقول مظلوم هذه الجملة بعد أن حمل هذه الطبقة ومن توالى على التربية مسؤولية الوضع الذي يعيشه اليوم. يسأل: “ماذا تركوا للتربية غير أنهم جعلوها متاحة لطبقة محددة من الناس تستطيع أن تضع أولادها في المدارس الخاصة، فيما غالبية اللبنانيين يذهبون إلى التعليم الرسمي الذي بكل أسف، إنهار؟”.
وتقول المعطيات المتوفرة إن حوالي 2000 أستاذ تقريباً تركوا التعليم. وهذا الرقم فقط محصور بالتعليم الأساسي والثانوي، فيما ليس هناك من رقم محدد يخص التعليم الجامعي، إلا أن الأساتذة يتحدثون عن أن الكثير من زملائهم تركوا القطاع بالفعلأو هاجروا البلد.
الذل
“حاولت الوصول إلى الجامعة حيث أعلّم لكني لم أستطع بسبب قطع الطرقات. عدت إلى المنزل ركنت سيارتي وذهبت مشياً على الأقدام، في طريق عودتي إلى البيت، وقعت وتعرضت لرضوض استدعت نقلي إلى المستشفى. جلنا على أكثر من مستشفى، ولا مستشفى استقبلني لأن صندوق التعاضد لا يغطيني. انتهى بي الحل وأنا اتصل بطبيب ليصف لي الأدوية التي علي استعمالها لكي أخفف من الألم، ليس أكثر”.
تروي الدكتورة ناهد الرواس في حديث لموقع “الحرة” ما جرى معها في معرض وصفها للواقع الذي يعيشه الأساتذة اليوم. تقول: “الأستاذ مثله مثل أي مواطن يعاني اليوم. الفارق أنه كان له قيمة في المجتمع اليوم هو في أدنى سلّم المجتمع ويعاني ما يعانيه من ذل وعوز، بعد أن تحول راتبه لمجرد أوراق لا تكفيه لكي يأكل مدة أسبوع”.
تُضيف: “نحن اليوم نُذل. نعم نُذل. نستمر بالتعليم باللحم الحي. نحن نأتي بالقرطاسية، ونأتي بأوراق التدريس ونطبع المسابقات. نستخدم الكومبيوتر خاصتنا لأن الدولة لم تقدم لنا شيئاً، فقط طلبت منا أن نُعلّم عن بعد من دون حتى أن تسأل كيف سنُعلّم. تخيل أنني اليوم إذا تعطل اللابتوب لن أستطيع أن أشتري مكانه أو أن أصلحه لأن قيمة تصليحه قد تبلغ ضعفي الراتب إن لم يكن أكثر”.
أيضاً، وكما في الثانوي والأساسي، تتحدث الرواس عن طلبات استيداع بالمئات. وطلب الاستيداع هو استمارة يملأها الأستاذ حين ينوي أن يرحل لفترة معينة ويوافق عليها الوزير المعني ومجلس الخدمة المدنية وهي تكون لمدة سنة قابلة للتجديد مرتين. تقول الرواس: “بالإمكان القول إن هجرة الأساتذة كارثية ومخيفة”.
ويقدر اليوم أن هناك حوالي 1200 أستاذ متفرغين في الجامعة اللبنانية منذ عام 2014 ولم يتمكنوا من الدخول إلى الملاك، وهناك حوالي 70 في المئة من أساتذة الجامعة اللبنانية يعملون بنظام التعاقد أي من دون تفرغ، وبرأي الرواس أن “الأساتذة من هؤلاء ممن سيتقاعدون لن يجدوا ما يأكلونه على الأرجح. هذا هو الواقع المأساوي”.
يبلغ راتب أستاذ التعليم الأساسي حوالي 800 ألف ليرة كمعدل عام. يعني ما يُقارب الأربعين دولاراً على سعر السوق السوداء، وقد يصل الراتب بحد أقصى إلى مليون ونصف أي 80 دولار بحسب معدل الساعات التي يُدرسها. المتعاقدون منهم لا يتحصلون على رواتبهم بشكل منتظم أي شهري كذلك هم لا يحصلون لا على بدل نقل ولا يستفيدون من الضمان الاجتماعي.
تقول نسرين شاهين وهي أستاذة متعاقدة في المدرسة الرسمية: “آخر مرة حصلنا على رواتبنا كانت من عدة أشهر. المُبكي أن مصرف لبنان يسمح لنا بالحصول على نصف الراتب، نصف المستحقات، وفقاً لتعاميمه. يعني ليس فقط نحن لا نقبض راتباً يكفينا، بل أيضاً لا يسمحون لنا بالحصول على راتب لا يوازي اليوم أكثر من 50 دولاراً ولا يكفي مصروف أسبوع من الشهر”.
تروي نسرين أن “أحد الأساتذة معها، كان يجلس في المدرسة أثناء ساعة فراغ ليحتسب راتبه وماذا يستطيع أن يفعل به. فجأة، جمع حاجياته ورحل، والسبب أنه اكتشف أن ما يجنيه خلال شهر كامل من التعليم ومهما زاد عدد الساعات التي يعطيها لن يكفيه ليؤمّن أكل ابنه”، تُضيف: “نحن لدينا كرامة، لن ينتزعوها منّا. صحيح أننا مستعدون لكي نُضحي ولكن ليس على حساب كراماتنا وليس في ظل هكذا سلطة فاسدة”.
وفي تصريحات لرئيس حكومة تصريف الأعمال اللباناني، حسان دياب، في لقائه وزير خارجية قطر، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الثلاثاء، في مقر السفارة اللبنانية بالدوحة، قال: “لقد بلغ لبنان حافة الانهيار الشامل (…) بفعل عقود من الحروب والإهدار والفساد، والسياسات التي شجعت الاقتصاد الريعي على حساب الاقتصاد المنتج”.
ويشهد لبنان منذ صيف 2019 انهيارا اقتصاديا متسارعا، صنّفه البنك الدولي الشهر الماضي على أنه من بين أسوأ ثلاث أزمات في العالم منذ العام 1850.
وقد فاقمه انفجار مرفأ بيروت المروع في الرابع من أغسطس وإجراءات مواجهة فيروس كورونا.
ولا تلوح في الأفق أي حلول جذرية لإنقاذ البلاد، ويغرق المسؤولون في خلافات سياسية حادة حالت منذ نحو 11 شهرا من دون تشكيل حكومة خلفاً لحكومة دياب التي استقالت بعد أيام من انفجار المرفأ.