العربات المتنقّلة تنعش الاقتصاد اللبناني… مساحة أمان لكبار السن ومُتنفّس للعاطلين عن العمل!

Share to:

الديار – ندى عبد الرزاق

«ربّ ضارة نافعة» الازمات المتعددة والمتلاحقة على اللبنانيين منذ العام 2019 لم تُفقدهم الامل، او تثنيهم في البحث عن مجالات عمل مختلفة مهما صغر شأنها. في ظل انعدام الحلول الشعب لم يعد ينتظر أي خطط تتعلق بالتعافي الاقتصادي وعودة الحياة الى القطاعات الرازحة تحت جمر الشّدّة والافلاس، ليكون المخرج بالانطلاق نحو مشاريع صغيرة الا انها تعد جيدة بالنسبة للمردود المالي الذي تحققه.

تحت لهيب هذه الأوضاع الاستثنائية انطلق الاختراع، الابتكار، إعادة التدوير وغيرها من الاعمال التي وصلت للعالمية عبر مجهود الشباب، كما ان اللبناني معروف عنه انه لا يقف مكتوف اليدين، بل يحاول ويؤمن ان في المحاولة نتيجة ستكون على قدر الجهد الذي يبذله والابداعات على مستوى الاختراع سواء في الطب، الهندسة، الكهرباء العلم، براءات اكتشاف في شتى الحقول برهنت انه صاحب نظرة ثاقبة وعقل لا يتوقف عن التفكير في إيجاد البراهين والحيثيات لأي مشروع او خطة.

من هنا برز العمل على العربات المتنقلة ليس فقط للعائلات المتعفّفة وانما لأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة. فكان هذا المجال باب للاقتصاد ومتنفس للناس في ظل الركود الاقتصادي الحاصل وارتفاع ارقام البطالة على كافة الأراضي اللبنانية.

مئات العربات «والشغل مش عيب»

«يقال على قدر المحاولات تأتي النتائج بما تشتهي الانفسُ» مئات البسطات والعربات في ساحة النور طرابلس، الدورة، برج حمود، الجميزة والبربير، رأس النبع، وتحت جسر الكولا حيث تبيع أنواعا مختلفة من الأطعمة والسكاكر والحلويات التي يتم صنعها يدويا، إضافة الى الذرة والفول والعرانيس.

ومن منا لا يرتشف قهوة في كل الأوقات فكيف إذا كانت من عربة العم ميشال المركونة في اول شارع الحمرا.

الملفت ان هؤلاء الافراد الذين يجرون عرباتهم للاسترزاق، نراهم متفائلين وينشرون الإيجابية كأن لديهم منها أطناناً تكاد لا تنفذ، متى رأيتهم تستلطفهم وتضحك كأنك استبشرت خيرا في يومك.

وما يجدر ذكره، ان انتشار هذه الظاهرة بسبب التعثر الاقتصادي واغلاق محلات تجارية كانت ذي بصمة وشهرة واسعة في محيطها من جهة، وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية وانعدام القيمة الشرائية وحتى المعنوية للعملة الوطنية من جهة أخرى. فظهرت العربات كجزء لا يتجزأ من الحلول المستدامة الى وقت زمني معين متوسط الأمد. فبائع العربة يوفّر الكهرباء وبدل ايجار المحل واجرة موظفين واشتراك للبلدية وغيرها من الأمور الضرورية، لذا فالعربات الجرارة فرصة لتأمين الحد الأدنى من الدخل اليومي لعائلات هؤلاء.

البحث عن الرزق لا ينتقص من قيمة الانسان

توجد الكثير من القصص التي تتحدث عن اشخاص كانوا فقراء وأصبحوا اغنياء معروفين، وهؤلاء كانوا يشتكون القلة والفقر المدقع واستطاعوا تخطي الكثير من الصعوبات التي اعترضت طريقهم ونجحوا وتبدلت احوالهم بعد ان كانوا من أفقر الفقراء تحولوا الى اغنى الأغنياء. لا بل أكثر بات يحكى عن ثرواتهم الطائلة وممتلكاتهم التي لا تعد ولا تحصى ودمروا كل العوائق التي اعترضتهم وأضحوا من صنّاع المال، منهم الملياردير المجري جورج سورس والإيطالي ليوناردو فيكيو وغيرهما.

هذا العمل مفخرة لي ولأولادي قالها فؤاد من غير خجل او تردد وبصوت عالٍ، فبعد ان ترك مهنة التدريس انتقل للعمل على عربة عبارة عن ثلاث عجلات تحمل صندوقا خشبيا في داخله أصنافا مختلفة من المكسرات المتعددة الأنواع وخاصة «القضامة الملونة» يجوب بها منطقة الكولا وصولا الى محطته الرئيسية وهي دوار البربير حيث يبدأ من السادسة صباحا وحتى ساعات الليل المتأخرة.

يقول لـ «الديار»: « لا يمكنني الاستغناء عنها لأنها مصدر رزقي ولقمة عيش عائلتي على الرغم من المشقة والتعب والمعاناة، الا انني أقول الحمد لله لأنني لست بحاجة لأمد يدي لاحد وهذه نعمة وقناعة».

وعمّا إذا كان يفكر بالهجرة؟ يقول فؤاد: «بالطبع حاولت الا انني لم أكن مرتاحا وكما يقال ان الغربة تربة وليست بالأمر السهل ان يترك المرء وطنه ويذهب ليبني في اوطان غريبة».

«الديار» قامت بجولة ميدانية في مناطق تواجد هذه العربات، حيث يقف أصحابها سعياً للاسترزاق والبيع.

لا ضرورة للسؤال عن مكانهم فأصواتهم المتعالية تدلك، فمنهم من يرفّه مبيعاته عبر استخدامه جملا موسيقية بصوت ممزوج بنغمة كأنه يغني على ليل بضاعته، فيدلعها قائلا: « حلوة يا ذرة» او» الشكل فول والطعم عسل وطعمية» وغيرها من العبارات.

«مجبر اخاك لا بطل»

عند مداخل الجميزة من جهة منطقة برج حمود شارع ارمينيا يقف العم ريمون مع عربته التي يضع عليها الخضار وينادي على بضاعته «موز يا بلدي بأحلى وأرخص الأسعار»، وتحتوي عربته على البرتقال والمانغا والتفاح والرطب، يقول لـ «الديار»: « انا اعيل عائلة من 10 افراد أقف كل يوم في نفس المكان علّني ابيع كل ما على العربة واعود بغلّة باتت لا تكفي لشراء الخبز والزيتون، الا انني اشكر الله على كل حال. ويضيف، اتعرض لمضايقات كثيرة من أصحاب المحلات لاعتقادهم انني اسرق زبائنهم».

ويتابع، «الرزقة على الله مش على العبد»، وينهي بالقول: «انا لا اعطيهم بالاً لأنني ابن هذه المنطقة وحقي ان أعيش وعائلتي بكرامة، الا انه وللأسف كرامتنا باتت على عربة التي افتخر بها لكنني لا اعتز بالسلطة السياسية التي اوصلتنا الى هذه الحالة. فأنا رجل سبعيني وما عاد بمقدوري الوقوف لساعات من اجل ان ابيع بضاعتي والا فستخرب واكون قد خسرت عوضا عن الربح».

كعكة أبو العبد

أبو العبد يجوب الجميزة صباحا وهو يرتدي زيه التقليدي عبارة عن الشروال الفضفاض ويضع على رأسه قبعة حمراء ذات الشراريب السوداء، وينادي على كعكته اللذيذة التي ينتظرها سكان المنطقة، ومع ارتفاع الأسعار حيث وصل سعر المنقوشة الى 120 ألفا لا زالت كعكته بـ 50 ألفا.

لا عيب إذا كانت الشهادة بيد والمهنة في أخرى!

لم ينتظر محمد ابن ساحة النور- طرابلس فرصة العمل في أحد مكاتب المحاسبة بشهادته الجامعية، فعمد الى شراء عربة يبيع عليها الدخان والسحلب الساخن وغيره من المشروبات الساخنة.

يقول لـ «الديار»: « كنت اعمل كـ SALESMAN لأدوات تجميل تباع في الصيدليات ومع الازمة الشركة أغلقت أبوابها وصرفت موظفيها، فعزمت على ان لا استسلم للواقع المرير او للبطالة او أستكين لسياسة الدولة العاجزة عن توظيف طاقات الشباب. وقررت ان ابدأ بمشروعي الخاص والذي يتمثل بعربة اركنها في ساحة النور واسهر بالجلوس الى جانبها ويتحلّق حولها مجموعة شبان لاحتساء السحلب مع الكعك او القهوة والشاي».

ويتابع، «الكدح ليس عيبا وعلى الانسان ان يسعى وان لا يخجل من أي عمل يؤمن له مردودا ماديا. ويشير الى مجموعة من الشباب الذين يكدّون على جمع المواد البلاستيكية من مكبات النفايات ليقول ان هذا العمل شرف لهم وعملي على العربة وجرها يوميا امام عشرات الالاف من الناس لا اخجل به، بل أشعر بالعجز والوهن إذا لم اكسب وأشجع كل الشباب بالجهد والدأب لتحقيق احلامهم ولو من بدايات صغيرة».

في بلد الساعي لتأمين لقمة العيش كالمحارب الذي ينطلق في معركته يثق بقوته ولكن لا يعي ما إذا كان سيعود سالما ظافرا ام منكسرا او ميتاً! في الحالتين اللبناني لا يستسلم نحن شعب خلقنا للعمل للاختراع للمثابرة للمضي والمواجهة وربنا قال «حي على خير العمل» ومهما كان نوعه هو بمثابة جهاد أصغر.

Exit mobile version