تعود مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك اليوم الى محاولة لفت الأنظار إلى قطاع، لطالما شكّل مرآةً للفوضى الإدارية والهدر المزمن في لبنان. فإطلاقها “فيديو” يسلّط الضوء على أهمية حماية مسارات السكك الحديدية ورفع التعديات عنها، يبدو للوهلة الأولى خطوة توعوية ضرورية، في بلد تآكلت فيه البنية التحتية، وتجاوزتها الاعتداءات والاهمال.
لكن المفارقة تكمن في أن هذا القطاع بالذات تحوّل على مدى عقود، إلى نموذج صارخ لسوء الإدارة، حيث صُرفت مئات ملايين الدولارات على مشاريع تثبيت مسارات، أو إعادة ترميم خطوط لم تُستخدم يوما، وبقيت “سكك حديد” على الورق أكثر مما هي على الأرض.
من هنا، يكتسب القطاع السككي بعدا نقديا لا يمكن تجاهله. فالمصلحة تتحدث عن التحضير لـ “المرحلة المقبلة”، وعن إعادة إحياء القطاع “حين تنضج الظروف”، وربط لبنان من جديد مع الخارج عبر القطار، في وقت يتساءل فيه اللبنانيون عن مصير الأموال التي رُصدت سابقا، وعن الخطوات العملية لا الإعلامية، التي يمكن أن تعيد الثقة بهذا المرفق الحيوي. وبين الرسالة الإيجابية التي يحاول المعنيون في هذا القطاع إيصالها، والواقع القاتم الذي يثقل هذا الملف، يقف المواطن أمام سؤال أساسي: هل نشهد بداية فعلية لمسار إصلاحي؟ أم أننا أمام محاولة جديدة لتجميل صورة قطاع، غارق في التعطّل والاتهامات القديمة؟
“حلم” القطار سيتحقق؟
استنادا إلى ما تَقدَّم، يقول مدير عام مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك المهندس زياد شيا، إنّ “موضوع إزالة التعدّيات هو أوّل أولويات واجبِنا الوظيفي، قبل أن يكون واجبا أخلاقيا ووطنيا، في ما يتعلّق بمعالجة كلّ تعدٍّ على الممتلكات العامة، فكيف بالأجدر التعامل مع التجاوزات القائمة على قطاعٍ له ما له من قيمة على المستوى المستقبلي للبلد”؟
ويكشف لـ “الديار”: “إنّ عملية رفع التعدّيات جارية، ولا سيّما بعد ورود مئات الشكاوى الإدارية والقضائية، الموجودة في القضاء والمحافظات من قبل مصلحة سكك الحديد تاريخيا، وقد استكملنا متابعتها. وفي الوقت الراهن تتمّ عملية الازالة بالتعاون الكبير من القضاء والأجهزة الأمنية اللبنانية، وتحديدا جهاز قوى الأمن الداخلي، مشكورين على الجهد المبذول في هذا المجال، وإلى جانبهم المحافظون. وقد أُزيل عدد كبير من التعدّيات، ويتمّ استكمال الباقي. ونحن لا نعتمد مبدأ الصيف والشتاء تحت سقف واحد، بل على العكس نتصدى لهذه التعديات، انطلاقًا من مسؤوليتنا الوطنية والأخلاقية”.
التنفيذ مقيّد.. الا إذا!
وعن تلقي الدعم للبدء بهذه المشاريع، يكشف: “نحن بصدد إعداد الدراسات، وبعضها منجَز، وتهيئة الأوضاع والظروف الملائمة، لكي نكون جاهزين ولا نضيّع الوقت. وبالتالي، فإنّ كل ما نقوم به حالياً، يهدف إلى أن نكون مستعدّين عندما تتوافر الظروف الموضوعية والسياسية، ويُتَّخذ القرار على صعيد الحكومة اللبنانية. ومن جهة أخرى، لا أخفي الدعم المطلق من فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الحكومة لما نقوم به، وما نضعه بتصرّفهما من خطط ورؤى للنهوض بهذا القطاع، وذلك بطبيعة الحال بمتابعة من وزير الأشغال العامة”.
في المقابل، يؤكّد أنّ “كلّ ذلك ليس له مواقيت محدّدة، غير أنّنا من جهتنا نقوم بكلّ الأعمال في الوقت نفسه، نحن كمجموعة صغيرة من الافراد لا نتوانى عن أداء جميع المهام، ونتعاون فيما بيننا”.
لا ازدهار بدون استقرار!
وعمّا إذا كان يتوقّع الانتقال من مرحلة التحضير إلى التنفيذ الميداني، يربط شيّا ذلك بتوفّر الظروف السياسية، ويُنوّه إلى أنّ “الجميع يعلم أنّ المشاريع الكبرى متعلقة بالاستقرار السياسي والأمني. لذلك، لن ننتظر حلول ساعة هذا الاستقرار، بل سنقوم بكل ما لدينا من إمكانيات إلى أن تأتي تلك اللحظة، وسنكون جاهزين لها”.
وحول صرف المليارات على السكك الحديدية، في حين لا قطار موجودا ولا ما يوازيه، يجيب ضاحكا: “هذا الكلام لا يستند إلى أساس، إذ إن ما يُصرَف على ترميم بعض المحطات، هو عبارة عن هبات من دول معيّنة، على سبيل المثال، يتمّ ترميم محطة مار مخايل وإعادة الاعتبار لخصوصيتها، سواء على المستوى التراثي أو لجهة تجهيزها وتهيئتها وفق الظروف التي ذكرتُها سابقا”.
ويُذكّر أنّ “تاريخ هذه المحطة يعود إلى عام 1894، علمًا أنّها متروكة منذ الحرب الأهلية، وقد لحِق بها دمارٌ جسيم جرّاء انفجار المرفأ في 4 آب 2020”.
ويعود ليُشير الى ان “هذا التمويل يأتي بدعم من الحكومة الإيطالية عبر وكالة التنمية الإيطالية، وبإشراف ومتابعة من اليونسكو و (UN-Habitat). لذا نقوم حاليا بما علينا القيام به، وما أطلقناه يرمي إلى مخاطبة الرأي العام اللبناني عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى يتحمّل كلّ فرد في لبنان مسؤوليته، في أن نكون جاهزين لما قد يأتي في الأيام والمرحلة المقبلة. وكلّ ذلك نفعله بقناعة مطلقة، إذ نقوم بواجبنا كمؤسّسة عامة معنيّة مباشرة بقطاع النقل العام وقطاع النقل السكّكي”.
ويختم: “نحن مستمرّون بشكل تصاعدي في موضوع النقل المشترك، إذ هناك ازدياد يومي وإقبال من الركّاب الذين يستخدمون هذا النوع من النقل، وقد فاق عددهم سبعة آلاف راكب يوميا، ونحن بانتظار المزيد من الباصات حتى نتمكّن من توسيع خطوطنا إلى مناطق أكثر حاجة وإلحاحا، وأماكن ينبغي أن يصل إليها النقل المشترك”.
ليس خافيا على أحد، ان السكك الحديدية اللبنانية انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت أبرز محطاتها محطة بيروت – رياق، ومحطات رئيسية أخرى تربط بين الساحل والمناطق الداخلية، حتى امتدت الشبكة إلى دمشق، مما جعل لبنان يوازي فرنسا في قدرته على ربط جميع مناطقه ببعضها البعض عبر قطارات منتظمة. هذه الشبكة لم تكن محلية فقط، بل ساهمت في ربط لبنان بالدول العربية المجاورة، مما منح البلاد مكانة رائدة على صعيد النقل والتجارة، وجعلها تُعرف في تلك الفترة بـ “سويسرا الشرق”.
لقد شكّل هذا ما يمكن وصفه بـ “العصر الذهبي” للسكك الحديدية اللبنانية، حيث كانت وسيلة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولم تكن مجرد وسيلة نقل، بل محوراً للتواصل والتقدم. اليوم، ومع الاهتمام المتجدد بالمشروع، يطرح السؤال: هل يمكن لهذا القطاع أن يلمع من جديد ويعيد لبنان إلى مكانته التاريخية؟ ان غدا لناظره قريب.


