أصبح مصطلح «الذكاء الاصطناعي» شائع الاستخدام هذه الأيام، ومنذ ان اخترع الانسان الكومبيوتر وهو يسعى الى تطوير ابتكاره، وقد وضعت اساسات هذا الابداع بناء على دراسات تعود لعالم الرياضيات الإنكليزي «الان تورينغ». والذكاء الاصطناعي علم يهتم بصناعة الات او روبوتات متعلقة بأنظمة الكومبيوتر، وتتصرف بطريقة ذكية، لامتلاكها ميزات مرتبطة بالدهاء، واتخاذ القرار وأداء بعض المهام التي تتطلب الفهم والتفكير والسمع والتكلم والحركة عوضا عن البشر.
بالموازاة، صار «للروبوتات» قدرة على تحسين وتعزيز العديد من جوانب الصحافة، لكنها لن تحل مكان الصحافي الاستقصائي. ومهمتها تنحصر في مجموعة متنوعة من المهام مثل تجميع وتحليل البيانات، واستخلاص المعلومات من مصادر، واسعة ومتنوعة، واكتشاف الأنماط والاتجاهات. كما يمكن توظيفها في عمليات التحقق من الوقائع ومن صحة المعلومات.
بالمقابل، هناك جوانب من العمل الصحفي الاستقصائي التي لا يمكن «للذكاء الاصطناعي» أن يستبدلها بشكل كامل. على سبيل المثال، تحتاج الاستقصاءات الصحفية إلى قدرة على التفاعل البشري والتواصل مع المصادر وجمع المعلومات السرية والحساسة. كما يجب على الصحفي الاستقصائي ان يتمتع بمهارات متخصصة مثل التحقيق الميداني وإجراء المقابلات الشخصية وتحليل البيانات بطرق ذكية نظرًا للعناصر البشرية المتعددة المطلوبة في هذا المجال.
هلع من شبح غير موجود!
في سياق متصل، كان أشار العالم الراحل «ستيفن هوكينغ» في أواخر عام 2014 الى ان، «تقدم ذكاء اصطناعي كامل قد يمهّد الى اندثار الجنس البشري، وقد حذر من قدرة الآلات على إعادة تصميم نفسها ذاتيا». أيضاً، أعلن المؤسس والرئيس السابق لشركة مايكروسوفت بيل غيتس في 2015 عن رغبته في إبقاء الروبوتات غبية الى حد ما وقال، «انا في معسكر من يشعر بالقلق حيال هذا الاختراع».
على خطٍ موازٍ، اعتبر باتريك وايت أستاذ الصحافة بجامعة كيبيك، «ان الذكاء الاصطناعي ليس موجودا ليحل مكان الصحفيين او ليهمش ويلغي بعض الوظائف». مشيرا، «الى انه من المتوقع ان يتولى الذكاء الاصطناعي أكثر من 8 الى 12 في المئة من المهام الحالية للصحفيين، وبذلك سيعيد المحررون والصحفيون توجههم نحو الصحافة الطويلة والحوارات والتحليلات والصحافة القائمة على الإحصاءات والأبحاث الطويلة والصحافة الاستقصائية التي لم تتمكن الآلات من انتاجها حتى الان».
وفي هذا الإطار، قالت الصحفية نضال أيوب لـ «الديار»، «لا امكان «للذكاء الاصطناعي» تقصّي معلومات غير متوافرة لديه سلفا، وبالتالي لا يمكنه تتبع تلقائيا معطيات مستترة وكشفها وربطها فيما بينها واستخلاص النتائج، بما ان هذه التفاصيل تستوجب استخدام المنطق واستخراج استنتاجات جازمة تفوق قدرات الذكاء الاصطناعي الراهنة. كما يفتقر «الذكاء الاصطناعي» الى المؤهلات الإبداعية الضرورية لإنتاج التقرير بأسلوب جذاب ومثير لاهتمام القارئ وفق مقومات الكتابة الإبداعية». اضافت، «قد يساعد «الذكاء الاصطناعي» في الأبحاث التمهيدية التي تسبق اعداد التقارير الصحافية الاستقصائية»، مشيرة، «الى ان يمكن استخدامه لتحضير أسئلة المقابلات وتصحيح صياغة التقرير». وختمت أيوب، «رغم كل ذلك، على الصحفي مراجعة التعديلات التي يجريها الذكاء الاصطناعي على شكل تقرير لأنه قد ينتج أخطاء إضافية».
هل يمكن للذكاء الاصطناعي ان يجري تحقيقاً استقصائيا بنفسه؟
يجمع الباحثون والخبراء في هذا المجال على ان «الذكاء الاصطناعي» يمكن أن يساعد في عملية التحقيق الاستقصائي، لكن لا يمكنه أن يجري تحقيقًا استقصائيًا بنفسه لأنه كناية عن نشاط مشترك مع الصحفي لإنجاز هدف مشترك من خلال:
تجميع المعلومات: يستطيع الذكاء الاصطناعي حَشِد المعلومات من مصادر مختلفة على نطاق واسع وبشكل أسرع من البشر، ومساعدة الصحفي في الوصول إلى مصادر البيانات والمعلومات المهمة.
تحليل البيانات: يمكن للذكاء الاصطناعي دراسة البيانات واستخلاص المعلومات الرئيسية وكشف الأنماط والاتجاهات المهمة، كما يسعف في توضيح الافكار المعقدة بطرق ذكية وتوفير نتائج تسهم في التحقيق.
التأكد من الوقائع والمعلومات: يمكن للذكاء الاصطناعي مساندة الصحفي في التحقق من صحة المعطيات بالمقارنة وتفسير المستند انطلاقا من قاعدة المعلومات المتاحة. الى جانب الأدلة الملموسة والموثقة بالبراهين في عملية التحقيق، مثل اكتشاف الصلات بين الأحداث أو توفير أخبار إضافية حول الموضوع.
ومع ذلك، فإن الصحافي الاستقصائي يلعب دورًا حاسمًا في عملية التحقيق، حيث يتطلب الأمر مهارات بشرية مثل التحليل العميق، والتواصل مع المصادر، والعمل الميداني، وإدارة المعلومات بطريقة متكاملة. فالصحافي يتحمل المسؤولية الأخلاقية ويتفاعل مع العواطف والتحديات القانونية والسياسية التي ترتبط بالتحقيقات الصحفية.
تجدر الإشارة الى ان المخترع والمستثمر الأميركي «ايلون ماسك» كان وصف الذكاء الاصطناعي بأنه، «من ارهب المخاطر التي تُهدد الوجود البشري مشبها تطوير الآلات الذكية «باستحضار الشياطين».
البشر أولى من «الروبوت»
توصل الباحثون في هذا المجال الى امكانية استغلال «الذكاء الاصطناعي» في تحليل البيانات والإحصاءات والمنشورات كونه أسرع وأكثر دقة من البشر. واستخلاص المعلومات الهامة وكشف الاتجاهات والأنماط في الاستبيانات، وإنشاء تقارير صحفية تلقائية انطلاقا من البيانات والمعلومات المتوافرة. حيث يستطيع توليد تقارير مفصّلة بشكل أنشط وانجاز محتوى أولي للصحفيين لاستخدامه كنقطة انطلاق لتطوير تقاريرهم، والتثبت من الحقائق ومكافحة الأخبار الزائفة وتحليل الاخبار والمعلومات من مصادر متعددة ومقارنتها للتأكد من صحة الاشعارات ومكافحة الاعلانات المضللة. وبحسب الخبراء يمكن الاستفادة منه في خلق محتوى آلي صحفي، مثل تقارير مبتكرة أو مقالات تفسيرية بناءً على البيانات والتصاريح المتاحة. الى جانب كل ما تقدم، أيضا يمكنه تعريب لغات متعددة لتسهيل عملية الترجمة الآلية للغات مختلفة، مما يمكّن الصحفيين من الوصول إلى المصادر والمعلومات من جميع أنحاء العالم.
في الخلاصة، هذه بعض المجالات التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دورًا فيها. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن الجوانب البشرية في هذا المجال مثل التفاعل البشري والتحقق الميداني لا تزال ضرورية وتعزز دور الصحافي في عمله ولا يمكن للروبوتات ان تحل مكانه.
والمطلوب مواكبة التقنيات الجديدة، حيث تحتاج غرف الاخبار والقنوات التلفزيونية تحديدا الى تقنية الذكاء الاصطناعي لتطوير اعمالها، وتوفير جهود صحافيها المهدرة على أمور روتينية كإنشاء نظام لتسريع الترجمات او نظام يكشف عن الصور المزيفة، لذا قد يكون تخوف البشر محقا لجهة ان الذكاء الاصطناعي سيسرق وظائفهم. لكن، لا يزال الانسان متفوقا على الآلات وبرمجياتها وتطبيقاتها مثل الصحافة العميقة المتعلقة بالحوارات الإنسانية او الصحافة الاستقصائية، التي لم تظهر بعد تطبيقات وأنظمة قادرة على القيام بها حتى الان.