في خضم النزاع الدامي الذي يشهده لبنان، يواجه الأطفال مصيرا فادحاً. فهم يدفعون أثمان الحروب دون أن يكون لهم فيها يد أو قرار. ان انفصالهم عن أسرهم بفعل النزوح، يتركهم في مواجهة مستقبل غامض ومقلق، حيث يتجرّدون من الحماية والرعاية الأسرية، التي كانت توفر لهم الأمان العاطفي والاجتماعي. تفضح هذه الصور المأسوية واقعا مريراً، حيث تم رصد 21 طفلاً بلا أهل، بعد أن فرقت الحرب بينهم وبين ذويهم.
في المقابل، هؤلاء الأطفال لا يمثلون فقط أرقاماً في إحصاءات النزوح، بل هم بشر يعانون من فقدان الطفولة الطبيعية التي كان من المفترض أن ينعموا بها. ولكن ماذا سيحل بهم في المستقبل؟ هل سيتضاعف هذا العدد مع استمرار الحرب والنزوح؟ وما الذي ينتظرهم في ظل تراجع قدرة المجتمع اللبناني على توفير الدعم اللازم؟
بالطبع، سيواجه المجتمع بأسره أزمة إنسانية أكبر، إذا استمرت أعداد الأطفال اليتامى والمتروكين في التصاعد، مما يفرض تحديات جسيمة على البنية الاجتماعية، التي أصبحت منهكة أصلاً.
على مقلب متصل، التساؤلات تُطرح بإلحاح: كيف سيتكيف هؤلاء الأطفال مع واقعهم الجديد؟ هل ستؤدي هذه الحرب إلى جيل ضائع من الأطفال المحرومين من الرعاية والفرص؟ وما هي التداعيات على مستقبل المجتمع ككل، إذا تركنا هذا الجرح مفتوحاً؟
المعالجة الجذرية “معدومة”
مما لا شك فيه، ان الموضوع الذي نتطرق إليه في هذا السياق، يسلط الضوء على معاناة الأطفال المنفصلين عن ذويهم بسبب الحرب الدائرة في لبنان، حيث لم يتم تناول هذه المشكلة الإنسانية بشكل واسع حتى الآن. لذلك تفتح جريدة “الديار” هذا الملف على مصراعيه، لما يحمله من عواقب إنسانية واجتماعية خطرة. ان عزل الأطفال عن عائلاتهم يعرضهم لمهالك متعددة، من بينها التحرش والاستغلال، ما قد يخلق جيلاً كاملاً يعاني من آثار نفسية واجتماعية جسيمة. وفي ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تضرب لبنان، يصبح الحديث عن حماية هؤلاء الأطفال أكثر إلحاحاً.
من 23 أيلول لغاية 13 تشرين الأول
“الاتحاد” رصد 21 انفصالاً!
وفي هذا الإطار، تقول رئيسة الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان اميرة سكر لـ “الديار”: “ما زلنا في بداية الأزمة، ولذلك نشدد على ضرورة إعلام قضاء الأحداث أو النيابات العامة حول وجود الأطفال بمفردهم ودون أهل، وذلك لمتابعتهم بشكل دائم ودوري، وتجنب حدوث أي نوع من العنف، سواء كان تحرشاً أم استغلالاً”. وتضيف “لقد تم رصد عمليات تنمر ضد هؤلاء الأطفال من قبل المجتمعات التي يوجدون فيها، وقد تدخلنا من خلال دعمهم وتوعية المجتمعات حول هشاشتهم وكيفية التعامل معهم”.
وحول انتشار هذه الظاهرة، توضح: “لم يتم رصد حالات تحرش حتى الآن، ولكن هذا لا يعني أنها غير موجودة. يمكن ان يكون الأمثل التركيز على التوعية أولاً وأخيراً، ليتسنى بعدها الإبلاغ عن أي سلوك يزعج الطفل، سواء كانت لمسات غير مريحة أو غيرها”.
وتستكمل “في ظل غياب البيئة الحاضنة، وجهل الأطفال بما يحدث معهم، وقلة خبرتهم، فان ضعف ثقتهم بمن حولهم وعدم معرفتهم بطرق الإبلاغ، يجعلهم من الفئات الأكثر هشاشة ويحولهم الى ضحايا محتملين، وهو أمر طبيعي في ظل هذه الظروف”.
الإجراءات المتخذة للحماية
وتشدد سكر على “موضوع التوعية والإبلاغ والمتابعة بما في ذلك المعالجة. أما بخصوص المراكز المتخصصة، فلا توجد مراكز خاصة لهذا الغرض، ولكن الجمعيات الأهلية ووزارة الشؤون الاجتماعية تقوم بعمل جبار على الأرض، رغم أن الأزمة كبيرة والتحديات أكبر”.
ما هي كيفية التعامل مع حالات التحرش؟ تجيب “يتم تحويل الأطفال الى العلاج النفسي فورا، كما يجب المتابعة اجتماعياً وقضائياً إذا لزم الأمر. لذا، من المفروض أن يكون هناك بروتوكول متبع في جميع الجمعيات التي تعمل مع الناجين والناجيات. كما يجب أن يلتزم العاملون مع الأطفال بهذا البروتوكول لضمان عدم استغلالهم”.
اما في ما يتعلق بالنقص في الموارد والتمويل، فتقول: “نحن كما الجميع، نعاني من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ 2019 حتى اليوم. ورغم وجود بعض المشاريع الصغيرة، إلا أنها لا تكفي سوى للمتابعة الأولية، نعتمد بشكل كبير على المتطوعين والمحسنين لسد النقص في التمويل”.
مأساة الأطفال المنفصلين عن أسرهم
من جهتها، تشير الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس لـ “الديار” الى انه “في علم النفس والاجتماع، فان الأطفال الذين ينفصلون عن ذويهم بسبب الحرب أو النزوح، يواجهون تداعيات خطرة على المستوى النفسي والاجتماعي، بحيث يصبح هؤلاء بلا أهل، ويفتقدون الحماية والرعاية الأساسية التي توفرها الأسرة، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال والتحرش وأشكال أخرى من العنف. بالإضافة إلى ذلك، قد يعانون من مشكلات نفسية طويلة الأمد مثل القلق، الاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة”.
العواقب المستقبلية
وتتطرق الى “النتائج المستقبلية لفقدان الأطفال لأسرهم نتيجة النزاعات، والتي تشمل عدة جوانب خطرة:
– أولاً: قد يواجه هؤلاء اليتامى اضطرابات نفسية، تتسبب بصعوبات في التكيف مع حياتهم الجديدة. اذ يمكن ان ينجم عن اضمحلال البيئة الآمنة اضطرابات سلوكية وعاطفية، وقد يتفاقم الوضع في حال عدم تلقيهم الدعم النفسي اللازم.
– ثانياً: من المحتمل أن يلجأ البعض منهم إلى الانحراف الاجتماعي، أو إلى سلوكيات شاذة، نتيجة شعورهم بالإهمال أو الرفض من المجتمع. لذلك، يعزز انعدام التوجيه الأسري من احتمال انجرافهم نحو الجريمة أو التصرفات العدوانية، مما يزيد من خطورة وضعهم.
– ثالثاً: يمكن أن يؤدي فقدان الأهل ومرور الأطفال بتجارب قاسية في الحرب إلى اهتزاز الثقة بالآخرين، مما يعقّد من اندماجهم في المجتمع مستقبلاً. يمكن ان يضاعف هذا التراجع في الاطمئنان من عزلتهم ، ويجعلهم أكثر عرضة للاستغلال.
– رابعاً: قد تظهر صعوبات تعليمية بسبب عدم الاستقرار الناتج من النزوح والحرب، مما يعيق تحصيلهم الدراسي، ويحد من فرصهم في تحقيق تعليم مستقر ومستقبل مشرق.
الرعاية وضرورة التدخل
وفي سياق التعامل مع هذه الوضعية الحرجة، تشير يونس إلى أنه “ينبغي على الحكومات والمنظمات المعنية ضمان توفير الرعاية النفسية المتخصصة للأطفال المتضررين، ليس فقط لمواجهة الأزمات العاجلة، بل لتأمين دعم مستدام يساعدهم على التعافي. من الضروري أيضاً تكثيف حملات التوعية في المجتمع حول كيفية التعامل مع هذه الفئة، وتقديم الدعم اللازم لها سواء في المدارس أو في المجتمع الأوسع، لمنع أي استغلال محتمل”.
وتختم “بالإضافة إلى ذلك، يجب على الجمعيات المحلية والدولية أن تضافر جهودها لتقديم حلول متكاملة تشمل الإيواء الآمن، والتعليم، والرعاية الصحية، والدعم النفسي، لضمان حماية هذه الشريحة الضعيفة على المدى الطويل. وترى يونس “ان هذه الأزمة ليست مجرد قضية إنسانية عاجلة، بل تمثل تحديا مستقبليا يتطلب تدخلات مدروسة لتفادي نشوء جيل يعاني من تداعيات نفسية واجتماعية عميقة قد تؤثر في المجتمع بأكمله”.