سلطت الفيضانات غير المسبوقة في عدة مناطق أوروبية والحرائق في غرب الولايات المتحدة وكندا الضوء على الآثار الكارثية لتغير المناخ، وأهمية بذل المزيد من الجهود لمكافحته عالميا.
وتسببت الأمطار الغزيرة، الأسبوع الماضي، في حدوث فيضانات مدمرة في عدة مناطق غرب أوروبا، وخاصة في غرب ألمانيا، مما أسفر عن عشرات الضحايا. وفي الوقت نفسه، تعاني أجزاء من الدول الاسكندنافية، أبرد منطقة في شمال أوروبا، من ارتفاع كبير في درجات الحرارة.
وفي أقل من قرنين من الزمن، أعاد التغير المناخي رسم ملامح منطقة الألب السويسرية، متسببا بذوبان شديد للأنهر الجليدية ومستولدا أكثر من ألف بحيرة جديدة.
وقبل أيام أيضا تسببت الحرائق في غرب الولايات المتحدة وكندا بموت العشرات بسبب ارتفاع درجات الحرارة، والتهمت حرائق الغابات منازل في عدة قرى.
كما لقي 12 شخصا حتفهم بعد أن اجتاحت السيول مترو أنفاق في مدينة تشنغتشو بوسط الصين اليوم الأربعاء، فيما فاضت مياه سدود وأنهر جراء الأمطار الغزيرة في أنحاء مقاطعة خنان الصينية.
وقالت هيئة الأرصاد الجوية في تشنغتشو إنه تم تسجيل أعلى معدل هطول يومي للأمطار منذ بدء تسجيلها قبل 60 عاما.
والفيضانات الموسمية شائعة في الصين، لكن علماء يقولون إن التغير المناخي يتسبب بزيادة ظواهر الطقس المتطرفة.
أبرز العوامل
ومن أبرز العوامل المسببة لتغير المناخ هي الاحتباس الحراري الناتج عن التلوث وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون من المصانع والمركبات والطائرات، إضافة إلى عدة عوامل أخرى.
وفي هذا الشأن يوضح مدير وحدة التغير المناخي في معهد “عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية” – بيروت، نديم فرج الله، أن الانبعاثات الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري هي أحد الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.
وقال في حديثه لموقع “الحرة” إن هذه الانبعاثات ناتجة من المولدات والسيارات والمركبات والمصانع، واستعمال الأسمدة الكيميائية المنتجة من الوقود الأحفوري في الزراعة، مضيفا “جميعها تفرز غازات دفيئة ضارة بالبيئة”.
وأضاف أن المخلفات المنزلية والنفايات التي لا يعاد تدويرها ولا يتم التخلص منها بالطرق الصحيحة، عندما تتحلل تفرز أيضا غازات دفيئة وغاز الميثان وغازات ثاني أكسيد الكربون، وجميعها تساهم بالاحتباس الحراري والتغير المناخي.
وبحسب وكالة الأرصاد الأوروبية، تعتبر الأمطار الغزيرة كتلك التي شهدتها ألمانيا من بين أكثر العلامات المرئية والمدمرة على تغير المناخ نتيجة لارتفاع درجات الحرارة بسبب انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وأرجع العلماء السبب أن الغلاف الجوي الأكثر دفئا يمكن أن يحتفظ بمزيد من الرطوبة، مما يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة.
وحذرت الوكالة الدولية للطاقة، الثلاثاء، من أن تبلغ الانبعاثات العالمية لثاني أكسيد الكربون مستوى قياسيا عام 2023، وأن تستمر في الارتفاع بعده، نظرا إلى الحصة الضئيلة المخصصة للطاقات النظيفة في خطط الإنعاش الاقتصادي لمرحلة ما بعد كورونا.
وقالت الوكالة في تحليل لهذه الخطط إن الدول أنفقت مبالغ غير مسبوقة لمواجهة الوباء، لكنها خصصت بالكاد 2% من الأموال للانتقال إلى الطاقات النظيفة.
السيناريو الأسوأ
من جهته يؤكد رئيس حزب البيئة العالمي ضومط كامل لموقع “الحرة” أن “التدهور البيئي العالمي خطير، ونحن ذاهبون نحو الأسوأ، وكميات الوقود الأحفوري التي تستهلك يوميا ضخمة جدا وهي أحد الأسباب الرئيسية للاحتباس الحراري”.
وكشفت دراسة نشرت في 9 فبراير الماضي أن التلوث الناتج عن الوقود الأحفوري مسؤول عن واحدة من كل خمس وفيات مبكرة على مستوى العالم، مما يشير إلى أن التداعيات الصحية لحرق الفحم والنفط والغاز الطبيعي قد تكون أعلى بكثير مما كان يعتقد من قبل.
وذكرت الدراسة المنشورة في دورية “البحوث البيئية” أن مناطق في الصين والهند وأوروبا وشمال شرق الولايات المتحدة ضمن المناطق الأكثر تضررا، حيث تشكل نسبة مرتفعة على نحو غير متناسب من 8.7 مليون وفاة سنوية يرجع سببها للوقود الأحفوري.
ويتحدث ضومط عن “السيناريو الأسوأ”، ويقول إن “كوكب الأرض أمام خطر كبير والبيئة تتدهور باستمرار، والحرائق والفيضانات والزلازل قادمة وستزداد، وذلك بسبب الغازات الدفيئة وقطع الأشجار وحرائق الغابات واحترار الكتل الهوائية وتصادمها”.
وأضاف كامل أن “كوكب الأرض له بيئته الخاصة والإنسان بدل أن يحميه ويحافظ على بيئته، دمر كل شيء، لدرجة أن المحيطات لم تعد تستوعب غاز ثاني أكسيد الكربون”.
وأوضح أن “المحيطات حياة لكوكب الأرض، وهي تقوم بامتصاص الغازات”، وبدل الحفاظ عليها “يتم توجيه مجاري الصرف الصحي والمصانع وتلويثها”.
ويحذر ضومط من هذا السيناريو، موضحا أن “ثقب الأوزون يتوسع، وتدمير طبقته يؤدي إلى نهاية الحياة على كوكب الأرض”.
وكذلك يشرح فرج الله عن توقعاته للمستقبل بحال عدم إيجاد حلول سريعة لمعالجة مشكلة التغير المناخي، ويقول إنها تتمثل في “زيادة الفيضانات والحرائق والجفاف وارتفاع الحرارة وشح المياه، إضافة إلى زيادة انتشار الأوبئة والأمراض، لأن الحرارة هي بيئة خصبة للحشرات”.
ويعتبر أن “الطقس المتطرف الذي نشاهده في بعض دول العالم، ربما في المستقبل سيكون هو السائد”.
اتفاقية باريس
وعن إمكانية معالجة هذه الأزمة عبر اتفاقيات دولية، يذكر فرج الله اتفاقية باريس على سبيل المثال ويقول إنها “طوعية وليست إلزامية”.
واتفاقية باريس، هي أول اتفاق عالمي بشأن المناخ، وجاءت عقب المفاوضات التي عقدت أثناء مؤتمر الأمم المتحدة 21 للتغير المناخي في العاصمة الفرنسية عام 2015، ودخلت حيز التنفيذ رسميا في 4 نوفمبر 2016.
وكانت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد انسحبت من الاتفاقية، وفي فبراير الماضي عادت واشنطن للانضمام إلى الاتفاقية، التزاما بما وعده الرئيس الأميركي، جو بايدن، أثناء حملته الانتخابية، في وقت تهدف فيه الولايات المتحدة لخفض انبعاثات الكربون بحلول عام 2030.
بدوره يقول كامل إن “اتفاق باريس بلا إدارة وخطة إلزامية وتنفيذية وبلا مراقبة ومتابعة” ولذلك يرى أنها “لا تنفع” وحدها في معالجة أزمة المناخ.
ودعا المبعوث الأميركي الخاص لشؤون المناخ جون كيري يوم أمس الثلاثاء الصين إلى الاضطلاع بدور قيادي في التصدي لأزمة المناخ، والتعاون مع الولايات المتحدة على الرغم من التباينات بين البلدين، معتبرا أنه من دون ذلك يستحيل احتواء الاحترار المناخي.
وقال كيري في كلمة ألقاها في لندن “بكل بساطة لا مجال” لحل أزمة المناخ “من دون تعاون تام” ومن دون اضطلاع البلد الذي يصدر أكبر انبعاثات للغازات الدفيئة في العالم بـ”دور قيادي” على هذا الصعيد، في إشارة إلى الصين.
وتابع المبعوث الأميركي الخاص “الصين قادرة تماما” على مساعدة العالم في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة “خلال هذا العقد المفصلي الممتد بين 2020 و2030”.
وقال كيري “ليس سرا أن هناك تباينات كثيرة بين الصين والولايات المتحدة” لكنه شدد على أن “التعاون في ملف المناخ هو السبيل الوحيد” لإنقاذ العالم من المسار الانتحاري الحالي.
وتستضيف المملكة المتحدة في نوفمبر في غلاسكو (اسكتلندا) مؤتمر الأمم المتحدة حول التغير المناخي في “توقيت مفصلي” من شأنه أن يمكن العالم من “السيطرة على التغير المناخي”، وفق كيري.
حلول
أما عن الحلول فيتحدث فرج الله عن أهمية خفض الانبعاثات الناتجة عن الوقود الأحفوري والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.
ويعتقد فرج الله أن الحلول “يمكن أن يبدأ تطبيقها على مستوى الفرد”، موضحا أن “الفرد يمكن أن يخفف من استهلاكه للطاقة، وأن يخفف من استهلاك المواد الملوثة مثل البلاستيك، وأن يعتمد على وسائل النقل العام بدلا من السيارة”.
ولكنه بالمقابل، يشدد على أن مكافحة التغير المناخي تعتمد بشكل أساسي على الجهود الرسمية من قبل الحكومات، والالتزام يجب أن يكون على الصعيد الدولي، وليس من قبل دولة دون أخرى.
من جانبه، يؤكد كامل أيضا على أهمية السيارات الكهربائية في مكافحة التلوث، ويشدد على ضرورة استبدال الوقود الأحفوري بالطاقة النظيفة لتخفيف التلوث.
وقال كامل إن “الحلول لا يمكن تطبيقها خلال أيام أو أسابيع أو أشهر، وإنما تحتاج لسنوات، ويجب وضع خطط تمتد لعشر سنوات أو 15 سنة على سبيل المثال”، مشددا على أن هذه الخطط يجب تطبيقها من جميع دول العالم دون استثناء.
وأضاف: “يجب أن تشمل هذه الخطط زيادة الغطاء الأخضر، على غرار ما أعلنته السعودية”، أي مبادرة الشرق الأوسط الأخضر لزراعة مليارات الأشجار.
وأشار إلى أن “العالم بحاجة للطاقة، ويجب تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري (نفط وفحم وغاز) واستبداله بالطاقة الشمسية والهوائية والمائية”، وذلك يمكن أن يحصل بالتدريج.
وللتخفيف من آثار الفيضانات الناتجة عن التغير المناخي، يشرح فرج الله فكرة “المدن الإسفنجية” ويقول إنها عبارة عن أنظمة وشبكات لصرف مياه الأمطار من الشوارع وتوجيهها نحو خزانات المياه الجوفية لاستخدامها في المستقبل.
وقال إن هذه الأنظمة والشبكات توجه مياه الأمطار نحو أراض مخصصة لامتصاصها مثل المساحات الخضراء أو برك وأتربة مخصصة لذلك”. وأضاف أن “المدن الإسفنجية تعتمد على المساحات فوق الأرض لامتصاص المياه، والفائض من هذه المياه يذهب عبر الشبكة الموجودة تحت الأرض لتصريفها”.
في أكتوبر 2018، أصدرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ تقريرا خاصا عن تأثيرات الاحترار العالمي البالغ 1.5 درجة مئوية، حيث توصلت إلى أن الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية سيتطلب تغييرات سريعة بعيدة المدى وغير مسبوقة في جميع جوانب المجتمع.
ويخلص التقرير إلى أن الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية يتطلب تحولات “سريعة وبعيدة المدى” في الأرض والطاقة والصناعة والمباني والنقل والمدن.
ويشدد التقرير على ضرورة خفض الانبعاثات العالمية الصافية الناتجة عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 45٪ عن مستويات عام 2010 بحلول عام 2030، لتصل إلى “صافي الصفر” في حوالي عام 2050. وهذا يعني أنه يجب موازنة أي انبعاثات متبقية عن طريق إزالة ثاني أكسيد الكربون من الهواء.