قاطعت الأسئلة في بيروت عقب القمة اللبنانية ـ القبرصية بين الرئيسين العماد جوزاف عون ونيكوس خريستودوليدس، وتكاثرت التحليلات حول ما إذا كانت اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة حملت في طياتها تنازلات مبطّنة أو تغييرًا في المقاربة الرسمية اللبنانية، وخصوصًا بعد إحياء ملف الحدود البحرية الغربية. إلّا أن الأجوبة التي توافرت من مصادر معنية بملف الترسيم تؤكّد أن كلّ ما يروّج عن تبديل في المواقف أو إعادة إحياء لاتفاقية 2007 غير الدقيقة قانونيًا هو مجرّد قراءة متسرّعة لا تمت إلى الواقع بصلة، وأن الترسيم الموقع مع قبرص استند حصرًا إلى الأسس القانونية نفسها التي اعتمدها لبنان منذ العام 2011، من دون أي التفاف أو مقايض
وتوضح المعطيات أن اللجنة المكلّفة بقرار مجلس الوزراء رقم 38 الصادر في 11 تموز 2025 صاغت الاتفاقية التي وقعت مع الجانب القبرصي، وأن الإحداثيات المعتمدة هي ذاتها التي أقرّها مجلس الوزراء في المرسوم 6433 بتاريخ الأول من تشرين الأول 2011، إبّان حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، والتي أودعها لبنان رسميًا لدى الأمم المتحدة في العام نفسه. وهذا يعني بنفي قاطع أن اتفاقية 2007 شكّلت مرجعًا للترسيم، إذ إنها لم تُبرَم في مجلس النواب ولم تدخل حيّز التنفيذ، كما أن خط الوسط الذي اعتمدته جرى تصحيحه بالكامل بموجب المرسوم 6433، ما يجعل الحديث عن العودة إليها سباحةً عكس التيار القانوني والدبلوماسي للدولة اللبنانية.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن اللجنة اعتمدت المعايير نفسها التي يكرّسها القانون الدولي، ولا سيّما قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار، إضافة إلى أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي انضمّ إليها كلّ من لبنان وقبرص. وهذه المعايير، خصوصًا ما نصّت عليه المادة 74 المتعلّقة بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والمادة 121 المتعلّقة بأوضاع الجزر وتأثيرها في الترسيم، هي الضامن الوحيد للحلّ المنصف والعادل الذي يراعي وقائع الجغرافيا وحقوق الدول الساحلية. وبناءً على ذلك، فإن الجزيرة القبرصية المأهولة، خلافًا لبعض الادّعاءات، تملك حق الترسيم الكامل لمنطقتها الاقتصادية وجرفها القاري، أسوةً بأي دولة شاطئية، ما يجعل اعتماد خط الوسط وفق الظروف ذات الصلة هو الخيار القانوني والمنطقي الوحيد أمام البلدين.
وعلى الرغم من الجدل الذي رافق عمل اللجنة السابقة في العام 2022 برئاسة الوزير علي حمية، تكشف المعلومات أن المنهجية التي اقترحتها تلك اللجنة، والتي حاولت تعديل خط الوسط باتجاه قبرص، لم تكن قابلة للتبني استنادًا إلى السوابق الدولية، إذ تبيّن للجنة الحالية، بعد التدقيق في التقرير الذي انطلق منه الاقتراح السابق، أنه يحتوي على مغالطات قانونية جوهرية وغير مكتمل من حيث المعايير التي تعتمدها المحاكم الدولية عند حساب أطوال الشواطئ. والأهم أن اللجنة الحالية خلصت إلى أن الأطولية الشاطئية لقبرص تتفوق على لبنان، وفق طرق الحساب التي تعتمدها محكمة العدل الدولية، وأن لبنان رغم ذلك يحصل وفق خط الوسط المعتمد في المرسوم 6433 على مساحة بحرية أكبر من تلك التي تحصل عليها قبرص. وهذا بحدّ ذاته ينفي تمامًا الادّعاءات التي تقول إن لبنان تنازل أو خسر مساحة بحرية لصالح قبرص، ويؤكّد أن أي محاولة للخروج عن خط الوسط كانت لتكون مجحفة بحق لبنان لا العكس.
وفي ما يتعلّق بالعلاقة بين الترسيمين اللبناني – القبرصي واللبناني – السوري، تؤكد المصادر أن الربط بينهما سياسي أكثر منه قانونيًا. فالحدود البحرية تُرسّم ثنائيًا بين كل دولتين، باستثناء النقطة الثلاثية التي تتلاقى فيها حدود لبنان وقبرص وسوريا، والتي اتُفق مع الجانب القبرصي على تثبيتها بشكل نهائي عند إنجاز الترسيم مع سوريا. وعليه، فإن انتظار التفاهم مع دمشق لتوقيع الاتفاقية مع نيقوسيا ليس في مصلحة لبنان، خصوصًا أن الترسيم مع سوريا قد يستغرق وقتًا أطول، بينما لا تغيير مرتقب في النتيجة القانونية النهائية للترسيم مع قبرص. والأولوية هنا تكمن في تثبيت الحدود الغربية البحرية للبنان سريعًا، لأن ذلك يمنح الدولة إطارًا قانونيًا صلبًا لتلزيم البلوكات البحرية والتفاوض حول البلوك رقم 1، المحاذي للمياه السورية، والذي بات يحتاج إلى تواصل مباشر وسريع مع دمشق لفتح مفاوضات واضحة حول حدوده.
أما بخصوص ما يُشاع عن ضغوط تركية هدفت لتعطيل الاتفاق أو تسريعه، فإن المصادر المعنية تنفي بشكل قاطع وجود أي ضغوط تتصل بعمل اللجنة. فمعارضة أنقرة الترسيم بين لبنان وقبرص مسألة سياسية تتعلّق بصراعها الإقليمي مع نيقوسيا، ولم يكن لها تأثير على المفاوضات الثنائية اللبنانية – القبرصية، خصوصًا أن اللجنة عملت وفق تفويض واضح من مجلس الوزراء وبالاستناد إلى المرسوم 6433 حصرًا، وبما يشمل النقاط من 23 إلى 7، وليس وفق اتفاقية 2007 غير النافذة التي تتحدث عن النقاط من 1 إلى 6.
لذلك؛ يتبيّن أن الأسئلة التي أعقبت القمّة اللبنانية – القبرصية تنشأ من سوء فهم أكثر ممّا تنجم عن وجود تناقضات في الموقف اللبناني. فالترسيم مع قبرص جرى على أساس قانوني صلب، لا يقترب من حقوق لبنان البحرية ولا يتأثر بتحوّلات سياسية أو إقليمية، ولا يشمل أي تراجع أو تنازل أو تعديل في المرسوم 6433 الذي لا يزال المرجعية الوحيدة المعتمدة. وما حصل من توقيع في القصر الجمهوري هو تثبيت قانوني ـ دبلوماسي لخط الوسط الذي اعترف به العالم للبنان منذ عام 2011، وهو ما يجعل الاتفاق الموقع خطوة استراتيجية لتأمين الاستقرار البحري، وتحصين الثروة الغازية، وتحرير الاستثمارات، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من السيادة البحرية الواضحة التي يحتاجها لبنان أكثر من أي وقت مضى.
داود رمال – “نداء الوطن”


