خيّبت اتفاقية الترسيم الأخيرة ظنّ من قرأها بحثاً عن تشويق سياسي، إذ لم يرد في البنود المعلنة غير العناوين التقنية المتعلقة بالخطوط أو الحقول، من دون أن يفهم غير المتخصصين والمتابعين الجديين شيئاً من شيء. في وقت بدا واضحاً أن ما لم يرد في الاتفاقية من بنود «سرية» هم أهم، في الواقع، من البنود المعلنة. ويمكن الحديث، هنا، عن ستة بنود تمثل الإطار العام لهذا الاتفاق اللبناني – الأميركي في مضمونه، لا اللبنانيّ – الإسرائيلي:
1 – اتفق الطرفان – كما ورد في الاتفاقية – على «إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك على طول خط العوّامات البحرية الحالي، رغم المواقف القانونية المختلفة للطرفين بشأن هذه المنطقة التي لا تزال غير محدَّدة». وهو ما يترجم كالتالي: نجح لبنان في إبقاء مزارع شبعا بحرية عالقة بينه وبين إسرائيل، على نحو يحول دون تمتع إسرائيل براحة بال الأمنية أو ضمان استقرار الطويل الأمد، حيث يمكن الرد من هذه المساحة الاستراتيجية المهمة على أي إخلال أميركي أو إسرائيلي بالاتفاق.
2 – الاعتراف الأميركي – الإسرائيلي بتطوير قواعد اللعبة بين لبنان وإسرائيل من توازن ردع عسكري وأمني قائم منذ عام 2006 على مبدأ المعاملة بالمثل، إلى توازن ردع اقتصادي يتمثل بردع المقاومة لإسرائيل عن التنقيب، قبل أن يضمن لبنان حقه في التنقيب. وهذه المعادلة – التوازن الجديد هي الضمانة للبنان في المستقبل، وليس الوعد الأميركي أو التوقيع أو غيره. ويفترض بالتالي تعزيز قوة المقاومة وقدراتها ليبقى التوازن المستجد قائماً، فلا تخلّ إسرائيل بالاتفاق. علماً أنه في موازاة المسيّرات وفيديو الرصد الصاروخي لمنصات الاستخراج الإسرائيلية وكلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فإن الرسائل الأهم لإسرائيل كتبها… اليمنيون. وقد خيّم على المفاوضات، في لحظاتها الأخيرة، ذلك الشعور الإسرائيليّ القاتل – بإجماع المؤسسات الأمنية – على حاجة إسرائيل إلى هذا الاتفاق للمضي قدماً في طموحاتها النفطية. وإذا كان لا بدّ من توطئة للاتفاق، فإنها كانت لتبدأ بالتالي: «لما كانت المؤسسات الأمنية الإسرائيلية مجمعة على وجوب التوصل إلى اتفاق مع لبنان، تحرك الوسيط الأميركي المفترض (…)».
3 – كسر الحصار الأميركي بقرار أميركيّ واضح منذ عام 2018 بمنع شركات النفط من العمل في لبنان. وقد نصت الفقرة «د» في القسم الثالث من الاتفاق على «عزم حكومة الولايات المتحدة بذل قصارى جهودها ومساعيها لتسهيل الأنشطة النفطية الفورية والسريعة والمتواصلة التي يقوم بها لبنان». وهو تحول أميركيّ ليس تفصيلياً. فمع مشارفة العهد الرئاسي العوني على نهايته، وبعيد انتخابات نيابية اقترع فيها الناخبون ضد التيار الوطني الحر بوصفه المسؤول عما وصلوا إليه، انتفت الحاجة الأميركية إلى حصار ماليّ واقتصاديّ كانت له تداعيات كارثية على حلفاء للولايات المتحدة في لبنان ممن تمت التضحية بمكتسباتهم التاريخية من أجل مكاسب سياسية ونيابية هزيلة، مسهماً في المقابل في تعزيز قوة حزب الله الاجتماعية والشعبية بدل إضعافه. وإذا كان المعنيون بالاتفاق يؤكدون عدم التطرق إلى أي قضايا جانبية، فإن المباحثات والتوقيع يتزامنان مع عودة الحديث الأميركي عن تسهيل استجرار الغاز لمعامل الكهرباء من مصر والأردن عن طريق سوريا، وإيعاز أميركيّ حتميّ للرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي للقبول بهبة النفط الإيرانيّ لمعامل الكهرباء. ويمكن في هذا السياق لحركة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأخيرة أن تكون جزءاً من الكل الأميركيّ الذي يشمل الكهرباء والمصارف والنفط.
4 – عدم الاعتراف الأميركي – على الورقة – بأي دور فرنسي في لبنان رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الخارجية الفرنسية لتذليل العقبات، وإعطاء الرئاسة الفرنسية وعداً للرئاسة اللبنانية بالتزام شركة توتال بتعهداتها هذه المرة، بعد التجربة السيئة والمريرة السابقة.
5 – عبر الإصرار الأميركي على التواصل المباشر مع جبران باسيل رغم وجود عقوبات أميركية بحقه، كان الأميركيون يقولون في البند الخامس غير المعلن إنهم يريدون اتفاقاً غير مباشر مع حزب الله، وهم غير معنيين بمشاعر من لا يملكون كلمة سر الحزب. ورغم الأدوار التي سعى إليها بعض المقربين من بعض الدوائر الأميركية، سارع هوكشتين إلى إغلاق كل النوافذ الجانبية، مبقياً على خط تواصل واحد فقط مع الجهة الموثوقة من الحزب. وكان واضحاً مرة جديدة عدم التفات الولايات المتحدة لمصالح أزلامها حين يتعلق الأمر بضمان أمن إسرائيل وتجنيبها الخطر المحدق بها، فذهبت إلى الاتفاق مع الرئيس عون، ممثلاً بباسيل، ومن خلفهما حزب الله، من دون أن تعلم حتى حلفاءها اللبنانيين بنواياها ممن كانوا يجزمون قبيل دقائق من اتصال الرئيس الأميركي بنظيره اللبناني لتهنئته على الاتفاق، بعدم وجود اتفاق. وفي الداخل كما في الخارج؛ لم تستشر الولايات المتحدة السعودية بأي شأن يتعلق بهذا الملف.
6 – في البند السادس غير المعلن، دعم أميركي مطلق للدور القطري في هذا الملف على حساب الدور الإماراتي، من دون أي تنسيق مع السعوديين. ولهذا، أيضاً، دلالات وآفاق، إذ كان يمكن الأميركيين أن يضغطوا أكثر لإعطاء الإمارات دوراً نفطياً في لبنان على غرار الدور السياسي الذي تحاول أن تلعبه عبر أدواتها الإعلامية المستجدة الكثيرة، لكنهم رضخوا بسهولة للطلب اللبنانيّ بأن يكون الدور لقطر الأكثر توازناً في علاقاتها اللبنانية وعلاقتها مع إيران من الإمارات، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الأميركيّ يريد استقراراً مطمئناً للجميع في هذا الملف بدل الحذر والريبة المخيمين على علاقات الإمارات مع الأفرقاء اللبنانيين والإقليميين.
هذا كله مثل الحيز الأكبر مما يوصف بمفاوضات الترسيم. وقد تداخلت في هذه البنود الستة حسابات خارجية كثيرة، لها علاقة بموازين القوى وتوازنات أمنية وسياسية واقتصادية ثبت في الاستحقاق الأخير أن الكثير من رؤساء الأحزاب والسياسيين والإعلاميين لا يفهمون بها من قريب أو بعيد، ولا يلتفتون إلى تداعياتها، ولا يعيرونها أي اهتمام، ولا يعنيهم من كل ما حصل وسيحصل سوى وجود بند سري خاص برفع العقوبات الأميركية عن جبران باسيل أم لا… وهو تفصيل لم يجر بحثه من قريب أو بعيد.