في بلد يتأرجح دائما بين الضرورة والحيلة، وبين الحد الأدنى من الحلول والحد الأقصى من التجاهل، تبدو تجربة مطمر الكوستا برافا كأنها بارقة أمل في أفق معتم، أو ربما ورقة تين تغطي عورة فشلٍ مزمن. فبينما يُشيد بها البنك الدولي كنموذج قابل للتكرار، لا سيما في مطمر برج حمود، تعلو أصوات بيئية تحذر من نُدرة الشفافية وكثرة التنازلات البيئية التي رافقت هذا النجاح المُفترض. فهل نحن أمام تجربة مدروسة قابلة للتعميم؟ أم أمام تجميل تقني لمشكلة تُرحَّل أكثر مما تُحلّ؟
المطمر الأفضل تنظيمياً وبيئياً
في ضوء ما تقدم، يتضح من المقارنة التي أجرتها «اللواء» مع مهندسين متخصصين في مجال البيئة ومعالجة النفايات الصلبة، لرصد الفوارق الجوهرية بين مطمري برج حمود والكوستا برافا، وتحديد ما إذا كان التعميم ممكنا فعلاً، أم مجرّد توصية على الورق. وقد تبيّن أن مطمر الكوستا برافا يمثّل نموذجا أكثر تنظيما وفعالية في إدارة النفايات، مقارنة بالفوضى والإهمال اللذين يطبعان واقع مطمر برج حمود. اما من حيث الموقع، يقع برج حمود في منطقة مأهولة وملاصقة للبحر، مما يُضاعف من الأثر البيئي على السكان، بينما أنشئ الكوستا برافا في منطقة شبه صناعية قرب مطار بيروت، ما يحدّ من هذا الأثر.
هندسيا، أنشئ الكوستا برافا وفق معايير دقيقة تضمنت العزل الجيولوجي وتجميع العصارة والغازات، بينما نشأ برج حمود كمكبّ عشوائي لا يستوفي شروط الطمر الحديثة. لكن على صعيد الإدارة، يعاني مطمر برج حمود من ضعف الشفافية وسوء التنظيم، بخلاف الكوستا برافا الذي يُدار من شركة خاصة ضمن عقد واضح وتحت رقابة حكومية.أما من جهة معالجة العصارة، فيضمّ الكوستا برافا محطة خاصة للمعالجة، في حين سبق أن تسربت العصارة في برج حمود إلى البحر، مسببة تلوّثاً بيئياً خطراً.
وفي ما يتعلق بفرز النفايات، فإن برج حمود لا يعتمد أي فرز ويقوم بالطمر المباشر، في حين يشهد الكوستا برافا محاولات محدودة للمعالجة، رغم غياب الفرز الكامل. من ناحية الاعتراضات الشعبية، شهد برج حمود موجات احتجاج بسبب التلوّث والروائح، فيما كانت الاعتراضات على الكوستا برافا أقل نسبياً بفعل موقعه الجغرافي. أما لجهة التوسع، فالعمران الكثيف يقيّد إمكانيات مطمر برج حمود، بينما يُتيح موقع الكوستا برافا إمكانيات توسعة مدروسة ضمن شروط فنية.وأخيرا، يفتقر مطمر برج حمود إلى أي تمويل خارجي مستقر أو رقابة جديّة، مقابل دعم يقدّمه البنك الدولي للكوستا برافا، ما يمنحه استدامة في التمويل والرقابة. بناء على هذه المعايير مجتمعة، يبرز مطمر الكوستا برافا كنموذج «أنسب» للطمر المنظم، على الرغم من التحفظات البيئية العامة على سياسة المطامر بحد ذاتها.
نجاحٌ في نظر البنك الدولي وتشكيك في التطبيق الفعلي
وسط هذه المعطيات المتداخلة، تُثار العديد من التساؤلات حول تقييم البنك الدولي لمطمر الكوستا برافا على أنه نموذج ناجح، يمكن تعميمه على مطامر أخرى في لبنان. فهل تستحق هذه المحاولة فعلاً هذا التوصيف؟ أم أن واقع تنفيذها يكشف عن خلل يتطلب تدقيقاً ومحاسبة؟في هذا السياق، توضح أستاذة الكيمياء البيئية في الجامعة الأميركية في بيروت، النائب الدكتورة نجاة صليبا، في حديثها إلى «اللواء»، أن «البنك الدولي يقدّم في اغلب الأحيان قروضاً تعد ديناً على الدولة اللبنانية يجب سدادُه، فهو ليس هبة».
وتضيف: «عندما يُكتب في دفتر المواصفات أن مشروعاً ما، كإنشاء مطمر، يجب تنفيذه طبقاً للطريقة المحددة فيه، فإن ذلك يُلزم الجهات المنفذة بالتقيد الدقيق بهذه المقاييس. لكنني أشك في أن أي عملية تفتيش قد جرت للتثبت من أن جميع المعطيات والمعايير الواردة قد طُبّقت كما ينبغي».وتتابع: «عندما زرت منطقتي برج حمود والجديدة لإعداد تقرير حول مدى الالتزام بدفتر الشروط، تبيّن لنا أن المتعهد لم يكن يطبّق أيًّا من الشروط المذكورة كما هي. وهذا ما يستدعي، برأيي، ضرورة إصدار تقرير عن التفتيش المركزي ليؤكد ما إذا كان المتعهد قد التزم فعلاً بالشروط المطلوبة أم لا. فمن حقّنا كمواطنين ومراقبين أن نشكّك في كيفية تطبيق دفتر الشروط، خصوصا في ظل غياب الشفافية والمساءلة».
وتشير إلى أن «البنك الدولي، من جهته، وبما أن أحدا لم يعترض أو يقدّم أدلّة على أن المتعهد لم يحترم المعايير، فقد اعتبر أن التمويل أُعطي على أساس إنشاء مطمر، وقد تحقق هذا الإنشاء بالفعل، فصُنّفت التجربة على أنها ناجحة. وهذا ما نراه مشكلة جوهرية، إذ ان التنفيذ الشكلي لا يُمكن اعتباره إنجازاً».
وتلفت إلى أن «دفتر الشروط الخاص بالقرض تضمّن أيضاً إنشاء معمل العمروسية الذي من المفترض أن يقوم بفرز النفايات قبل طمرها. إلا أن هذا المعمل، ورغم حصوله على قرضين لتوسيعه وتجهيزه، لم يُشغّل حتى اليوم. وهذا يعني ببساطة أننا لم نخفف من كميات النفايات، بل تم رميها كاملة في البحر، ما يضرب الأسس البيئية والإصلاحية للمشروع».وتردف «كان من المفترض أن يمتد عمر مطمر الكوستا برافا من 10 إلى 15 سنة، وذلك على أساس أن كمية كبيرة من الفضلات القابلة لإعادة التدوير ستُفصل قبل طمرها. لكن ما حدث هو العكس تماماً، إذ لم يتم فرز هذه الفضلات، فامتلأ المطمر بسرعة قياسية».
وتتابع منتقدة: «اليوم، يبدو أن هناك رضا من قبل البنك الدولي، إذ يخاطب الجهات اللبنانية كما لو أنه يقول: برافو، لقد ملأتم البحر بسرعة! أنا مستعد لأن أقدم لكم قرضاً ثانياً لملء البحر مرة أخرى! وهذه المقاربة إن صحت تُعد كارثة بيئية ومالية، وتُثير القلق حول مدى الجدية في إدارة هذا الملف الحيوي».وتؤكد ان «هذه هي القصة الكاملة، التي تُظهر بوضوح حجم التساؤلات والشكوك التي تراودنا. لماذا لم يدم مطمر الكوستا برافا العمر الذي خُطّط له؟ لماذا لم يعمل معمل العمروسية رغم القروض؟ ولماذا لم تُطلق حملات توعية حول فرز النفايات من المصدر، من أجل الاستفادة من المواد القابلة لإعادة التدوير؟ هذه الأسئلة الجوهرية تبقى دون إجابة، وما نزال ننتظر محاسبة شفافة بدلاً من إخفاء الحقائق كما تُدفن النفايات».
تقييم البنك الدولي ليس معياراً… وعلينا التعامل مع المخلّفات كمورد اقتصادي واستثماري
وتتابع «يؤكد هذا الأمر أن وجهة نظر البنك الدولي لا ينبغي أبدا أن تكون هي نفسها وجهة النظر التي يتبناها المواطنون اللبنانيون، أو التفتيش المركزي، أو هيئة الشراء العام، أو حتى وزارة البيئة».وتتطرق الى ما ورد في قانون إدارة النفايات رغم كل ثغراته، موضحة انه، «يحدّد الهرمية التي يجب اتباعها في إدارة النفايات الصلبة، وهي تبدأ أولاً بالتقليل من الإنتاج (Reduce)، ثم إعادة الاستعمال (Reuse)، ثم التدوير (Recycle). ونحن ملزمون بإعادة تدوير كل ما هو قابل للتدوير، وبعد ذلك تأتي مرحلة التسبيخ (Composting)، أي تحويل النفايات العضوية إلى سماد، وفي المرحلة الأخيرة فقط نلجأ إلى الطمر».
وتشدّد على ان «هذه المواد يجب أن تُعامَل على أنها موارد، فالفضلات ليست عبئاً فحسب، بل تشتمل على الكثير من المكوّنات التي يمكننا الاستفادة منها. كما أن إنشاء معامل للفرز والتدوير يمكن أن يخلق فرص عمل جديدة، ويُسهم في استثمار هذه المواد الأولية التي يمكن إعادة تصنيعها، ولا سيما الورق والكرتون، اللذين يُرمى بهما في الحاويات وتمتلئ بهما الشوارع. علما أن طن الورق يُعدّ عالي الكلفة، وهناك معامل ورق في لبنان تضطر إلى استيراده، بينما نحن قادرون على تأمينه عبر آليات تدوير فعّالة».
فصل المهام بين الوزارات «ضروري»
وتقول لـ «اللواء»: «درست قانون إدارة النفايات بكل تفاصيله، وحدّدت جميع الثغرات التي يتضمنها، اذ ان السلطتين التنفيذية والتشريعية معنيّتان معا بتطبيقه، وهذا ما لا يتيح للسلطة التشريعية ممارسة دورها الرقابي على السلطة التنفيذية، إذ يُطلب منها بموجب القانون، أن تصادق على الاستراتيجية الوطنية لإدارة القمامة. لذلك، سأعمل على تقديم هذا الملف الأسبوع المقبل، من خلال جولة على مختلف الكتل النيابية لشرح أسباب فشل القانون في إيجاد حلول فعلية، وسبل تعديل آلياته بما يسمح الفصل بين مهام وزارة البيئة من جهة، والسلطة التشريعية من جهة أخرى، لتمكين النواب من اداء دورهم كمشرّعين ومراقبين، في مقابل اضطلاع الوزارة بمسؤولياتها في إدارة النفايات. هذا في ما يخص القانون، والهرمية التي يجب اتباعها إذا أردنا السير فعلاً على الطريق الصحيح نحو إدارة متكاملة للنفايات».
برج حمود والجديدة… أكبر المصائب!
وتعتبر ان «النكبة تكمن في مطمر برج حمود والجديدة، حيث أعددت تقريرا كشف أن دفتر الشروط لم يُطبّق. فكان من المفترض إعادة تدوير جبل النفايات باستخدام الآلات التي وُضعت لهذا الغرض، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. لم يُشغّل مركز إعادة التدوير ولا معمل التسبيخ، بل جرت عملية طمر عشوائية تلوث البحر، ما أدّى الى ازدحام الأحواض بسرعة، وهم اليوم يشتكون من تكدّسها».وتضيف «هكذا تُدار الأزمة: كل عشر سنوات يُفتح مطمر جديد، ثم تُطلب تمويلات من البنك الدولي، لتُعاد لعبة التوظيف والصفقات، ويُطبّق أقل من 10% من دفتر الشروط. هذه المنظومة تتكرر في مختلف القطاعات، من النفايات إلى الكهرباء، ولذلك لن نسمح بتكرار هذا المشهد، وسنقف بالمرصاد. في النتيجة، يمثل مطمرا برج حمود والجديدة كارثة حقيقية، وكذلك مطمر الكوستا برافا، حيث لم يُحترم مبدأ التخفيف أو إعادة التدوير. الأخطر هو الاستيلاء على الأملاك البحرية وحرماننا من شاطئ يُعدّ من أجمل منافذ البحر في العالم، ويزدحم اليوم بالنفايات».
وتكشف لـ «اللواء» في الختام، «أن المطامر العشوائية أصبحت اليوم منظّمة، حيث يُجبى المال عن كل شاحنة تدخل إليها، وهي مكبات مدعومة من السلطة. ونحن نعلم في كل منطقة مَن هي الجهة الداعمة، وكافة التفاصيل المرتبطة بكل مدفن. فهناك جهات نافذة تفرض سلطتها على الأرض وتوفر الغطاء لهذه المطامر، مما يستدعي وضع استراتيجية متكاملة لإدارة النفايات، وإنشاء هيئة وطنية للإدارة تتبع وزارة البيئة مباشرة. أما قانون النفايات الذي أعدنا النظر فيه، فيجب أن يكون شاملاً ومتكاملاً، بما يتيح للسلطة التشريعية ممارسة دورها الرقابي على السلطة التنفيذية. وهذه المسألة ليست معقدة، فالمواطن سيلتزم بالفرز من المصدر إذا وجد إرادة سياسية حقيقية وخططا واضحة للتنفيذ».