لم يكن كانون الاول هذا العام كغيره من الشهور التي مرت على لبنان خلال سنوات الأزمات المتلاحقة. ففي الوقت الذي تتراكم فيه جراح الوطن جراء العدوان الإسرائيلي الأخير، الذي أوقع آلاف الضحايا وعشرات الآلاف من الجرحى، ودمر أحياء كاملة وشرد مئات العائلات، يطل هذا الشهر بجانب آخر يحمل معه بارقة أمل، ولو مؤقتة. ومع إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، الذي أنهى أسابيع من القصف والدمار، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام تحدٍ جديد: مواجهة الأزمة الاقتصادية التي أعقبت هذا العدوان، والتي عمقت معاناة الناس في ظل انعدام الموارد وارتفاع كلفة المعيشة.
ورغم هذا الواقع المأسوي، قرر اللبنانيون، بعنادهم المعهود، تحدي كل الظروف. ففي اليوم نفسه الذي أُعلن فيه وقف إطلاق النار، تسارع أصحاب المؤسسات والمتاجر إلى الإعلان عن بدء موسم “البلاك فرايدي”، مُطلقين عروضاً وخصومات كبيرة لجذب المتسوقين وإعادة تحريك عجلة الاقتصاد. بدا وكأنّ هذا التوقيت يحمل رمزية خاصة، وكأن اللبنانيين أرادوا أن يقولوا: “لن نستسلم”.
شهر كانون الاول في لبنان هذا العام ليس مجرد شهر آخر في تقويم الصمود، بل يمثل لحظة فاصلة بين أيام عصيبة ثقيلة ومستقبل غامض. مئات العائلات التي دُمرت منازلها لا تزال تتنقل بين شقق مستأجرة أو مراكز إيواء مؤقتة، والبعض الآخر اختار العودة إلى أنقاض منازله، محاولاً بناء ما يمكن إنقاذه. ومع ذلك، يستمر الشارع اللبناني في البحث عن بريق الحياة وسط الركام، سواء من خلال متابعة تخفيضات “بلاك فرايدي”، أو حتى عبر استعادة ولو جزء بسيط من مظاهر الحياة الطبيعية.
في مقابل ذلك، قد يتساءل البعض: ما الذي يجعل شهر كانون الاول مختلفاً عن غيره في لبنان؟ وكيف يمكن لهذا الشهر، الذي يحمل في طياته أجواء الأعياد وموسم التسوق العالمي، أن يصبح نافذة أمل لشعب لا يزال يرمم جراحه؟ تلك هي الأسئلة التي تفرض نفسها في ظل هذا الواقع المعقد.
من فكرة عالمية إلى تقليد لبناني يحمل رمزية التحدي
من أين جاءت الفكرة؟
يقول أحد أعضاء جمعية لجنة تجار برج حمود لـ “الديار”، “نشأ مفهوم “البلاك فرايدي” في الولايات المتحدة، حيث ارتبط في بداياته بيوم الجمعة الذي يلي عيد الشكر. شهدت خلاله المتاجر عروضاً ضخمة على مختلف المنتجات، وكان الغرض الأساسي تصريف البضائع القديمة لفتح المجال أمام المخزون الجديد استعداداً لفترة الأعياد. مع مرور الوقت، تطورت الفكرة وأصبحت ظاهرة عالمية تجتذب ملايين المتسوقين سنوياً، حتى باتت رمزاً للاستهلاك الكبير، حيث تتسابق المتاجر لشد العملاء بعروض استثنائية”.
تقليد جديد بتحديات محلية
ويتابع “لقد وصلت ظاهرة البلاك فرايدي إلى لبنان في السنوات الأخيرة، لكنه هذا العام مغاير تماماً. البلاد خرجت لتوها من عدوان إسرائيلي مكثف، كان له انعكاسات عميقة على كل الأصعدة. آلاف المنازل دُمرت، مئات العائلات لا تزال تعيش في مراكز إيواء أو شقق مستأجرة، بينما الاقتصاد اللبناني يئن تحت وطأة التضخم والبطالة وانهيار العملة المحلية. ومع ذلك، بدا أن “البلاك فرايدي” هذا العام يحمل بعداً مختلفاً: ليس فقط مناسبة للتسوق، بل رسالة تحدٍ من اللبنانيين للظروف التي تحاصرهم”.
تجار بين الاستغلال والدعم
ويشير الى انه “بينما تفتح المتاجر أبوابها لعروض البلاك فرايدي، برزت ملاحظات لافتة هذا العام. في الوقت الذي استغل فيه بعض التجار الأزمة الاقتصادية لتحقيق أرباح خيالية، حتى على حساب معاناة المواطنين، قررت فئة أخرى من التجار الوقوف إلى جانب الشعب. هؤلاء قدموا خصومات حقيقية تهدف إلى دعم العائلات اللبنانية للاستعداد لأعياد الميلاد ورأس السنة، رغم كل الصعوبات. يُذكر أن هذا الموسم عادة ما يشهد تصريف بضائع مخزنة منذ فترات طويلة، إلا أن الوضع هذه السنة كان مميزا. بعد انتهاء العدوان، قرر العديد من أصحاب المؤسسات والمحال التجارية تقديم تخفيضات مضاعفة بهدف جذب الناس إلى الأسواق، وإعادة الحركة التجارية بعد شهور من الركود”.
جولات ميدانية: حين تتحدث الأسواق عن قصص الناس
في موازاة ذلك، قامت “الديار” بجولات ميدانية في مختلف المناطق اللبنانية حيث الاجواء الروحانية المستمدة من عيدي الميلاد ورأس السنة، اذ لا يخلو شارع او محل، سواء كان صغيرا او كبيرا، من ملامح العيد، حيث الزينة الميلادية المسيطرة على الأجواء بامتياز والاهم ان جميع اللبنانيين ومن الطوائف كافة يحتفلون بهذا العيد بحيث إذا ذهبنا الى منطقة الضاحية وطريق الجديدة نرى الأجواء مشابهة لمنطقة الزلقا وجل الديب او حتى جونيه.
واجهات الأسواق مبهجة رغم الألم
خلال جولة ميدانية قامت بها ” الديار” في منطقة الأشرفية، إحدى المناطق التي لم تطلها نيران العدوان بشكل مباشر، بدا المشهد لافتاً. واجهات المحلات تزدان بشعارات الخصومات التي تتراوح بين 30% و50%. وفي بعض المتاجر الكبرى، مثل تلك المخصصة لبيع الأدوات المنزلية، عُرضت “البازارات” بأسعار تنافسية جدا، كعرض شراء مستحضرين والحصول على الثالث مجاناً، أو خصومات تصل إلى 70% على مجموعات محددة من المنتجات.
عودة تدريجية للحركة في المتاجر… لكن!
يكشف أحد أعضاء لجنة تجار برج حمود “ان المشهد في محلات بيع الألبسة بدا مختلفاً عن الأسابيع الماضية. في الأيام التي تلت العدوان، كانت المحلات شبه خاوية من الزبائن. لكن مع بداية كانون الاول، بدأ الناس يتدفقون ببطء إلى الأسواق. ورغم أن الحركة ما زالت خجولة، إلا أنها تعكس رغبة واضحة لدى اللبنانيين في استعادة ولو جزء من الحياة الطبيعية. اذ قررت بعض المؤسسات تحدي الظروف الاقتصادية وزينت واجهاتها بأشجار الميلاد والزينة المضيئة، مما أضفى أجواء احتفالية تخفف من عبء المشهد العام”.
بين الفرح والخوف “إرادة”
ويوضح ان “ما يميز البلاك فرايدي هذا العام هو الجمع بين الأمل والخوف. التفاؤل الذي تجسده العروض المبهجة والزينة الاحتفالية، والهاجس الذي يخيم على الناس نتيجة الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة. رغم كل شيء، ينزل اللبنانيون إلى الأسواق، البعض للتسوق والبعض الآخر فقط “للفرجة”، لكن الجميع يتشارك الروح: تحدي الألم ومحاولة إيجاد فسحة فرح في ظل واقع خانق”.
شهر كانون الاول: نافذة أمل أم صفحة جديدة؟
ويعتبر انه “مع استمرار عروض البلاك فرايدي طوال الشهر، ومع استعداد الأسواق لاستقبال موسم الأعياد، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن أن يصبح كانون الاول 2024 بداية لصفحة جديدة للبنان؟ أم أنه مجرد استراحة قصيرة من أزمات مستمرة؟ ما يبدو واضحاً هو أن هذا الشهر يحمل رمزية خاصة للبنانيين، كمحاولة جماعية للصمود أمام المآسي، واستعادة جزء من بهجة الحياة، ولو كانت مؤقتة”.
جمعة” الصمود والتحدي
في جولة ميدانية لـ “الديار” بين الأسواق اللبنانية، كانت اراء المواطنين الحاضرين تعكس عمق التحديات التي يعيشونها، وفي الوقت نفسه قوة الإرادة التي يتمسكون بها. تحدثنا إلى أحد المارة ويدعى وليد، الذي كان يتجول مع عائلته بين المتاجر بحثاً عن ملابس لأطفاله، وسألناه عن قدرته على الشراء في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. أجاب قائلاً: “صحيح ان الأوضاع الراهنة عسيرة ولا أملك فائضا نقديا لابتياع الكثير، لكن الأهم هو أن لبنان خرج سالماً ومنتصراً. اليوم، “البلاك فرايدي” ليس مجرد وقت للتبضع، بل هو للصمود والتحدي، ومناسبة لزرع البسمة على وجوه أطفالنا، ولمسح دموع الكبار الذين تحملوا الكثير، ولإحياء روح المنافسة الشريفة والفرح بموسم الأعياد. نحن هنا لنؤكد أننا، رغم كل شيء، باقون مهما تكالبت علينا الأزمات والأعداء”.
وأردف “قررت اصطحاب عائلتي إلى السوق، ليس للتسوق فحسب، بل أيضاً لخلق لحظة فرح لأطفالي الذين عاشوا ظروفاً صعبة، وبخاصة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير. وأشار إلى أن هذه اللحظات، مهما كانت بسيطة، تحمل معاني كبيرة بالنسبة لهم، إذ تعكس روح التضامن والأمل في مستقبل أفضل”.
دعم قبل الربح
من جانب آخر، أجرت “الديار” مقابلات مع عدد من أصحاب المحلات التجارية، الذين أجمعوا على أن هذه الفترة من العام ليست كباقي السنوات. وقال أحد التجار: “ان هذا “البلاك فرايدي” مختلف كلياً، في السابق كانت الخصومات فرصة لتصريف المخزون وتحقيق أرباح إضافية، لكن حاليا الأمر غير متماثل. نحن ندعم الأهالي الذين تحملوا الكثير من النكسات، ونقف إلى جانبهم لتخفيف أعبائهم. الهدف ليس الربح فقط، بل المؤازرة وإدخال الفرحة إلى قلوب الناس.”
وأضاف تاجر آخر، “رغم الصعوبات التي نواجهها كتجار بسبب الأزمة الاقتصادية، قررنا أن نقدم تخفيضات حقيقية تساعد الناس على الاستعداد للأعياد. اذ يحمل “البلاك فرايدي” رسالة تضامن لأنه يأتي بعد فترة عصيبة، ونريد أن يشعر الجميع بأننا معاً في هذه المعركة ضد الظروف”.في الخلاصة، بدا واضحاً من خلال هذه الآراء أن البلاك فرايدي في لبنان هذا العام تجاوز كونه يوماً للتخفيضات فقط، ليصبح رمزاً للصمود والأمل، حيث تتضافر جهود المواطنين والتجار لإحياء الأمل بغد أفضل.