قبل ثلاثة أسابيع من فتح صناديق الإقتراع أمام المواطنين الراغبين في المشاركة في الإنتخابات النيابيّة، ترتفع الأصوات المطالبة بوضع حدٍّ للمخالفات المرافقة للحملات الإنتخابية أكانت لجهة تخطي سقف الإنفاق الإنتخابي او لجهة ضبط الإعلام والإعلان الإنتخابيين، والحدّ من خطاب الكراهية القائم على التشهير والقدح والذم وإثارة النعرات الطائفيّة ونشر الأخبار الكاذبة، غير المقتصرة على المرشحين، إنما على بعض الجهات التي تعمد إلى تحويل «استطلاعات الرأي» إلى مادة تسويقيّة ترتدّ سلباً على مسار هذا الإستحقاق الديمقراطي.
ولا يقتصر التشكيك بـ «نزاهة» هذا الإستحقاق الدستوري عند التجاوزات التي تقوم «هيئة الإشراف على الإنتخابات» عبر المراقبين الإعلاميين بتوثيقها، وإنما يتعداه الى صلاحيّات الهيئة وقدرتها على التحقيق في «الرشاوى» والتقديمات التي تندرج في خانة تعزيز «الزبائنيّة السياسيّة» وتعقبها، إلى جانب تفاقم ظاهرة بعض المرشحين المتمولين الذين حولوا هذا الإستحقاق إلى «كازينو» ومزاد لـ «شراء الأصوات» مستغلين الضائقة الإقتصادية في لبنان، وفق التقرير الصادر مؤخراً عن «الدوليّة للمعلومات». ويضاف إلى ذلك، الهيمنة التي تمارسها «قوى الأمر الواقع» في مناطق نفوذها، عبر منع الحملات الإنتخابية لبعض المرشحين «المعارضين» كما حصل في الصرفند مع لائحة «معاً للتغيير» التي تُعتبر لائحة المعارضة الأساسية في الدائرة الثانية في الجنوب، في حين تكرّر مشهد الترهيب وإطلاق النار والقذائف في الهواء خلال جولة انتخابية لرئيس لائحة «بناء الدولة» الشيخ عباس الجوهري في بلدة الخضر البقاعية، ما عزز الشكوك في قدرة القوى المعارِضة لـ «حزب الله» أو «الثنائي الشيعي» على ممارسة دورها الرقابي والسماح للمندوبين بالتواجد داخل أقلام الإقتراع في جميع المناطق التي تقع تحت نفوذهما.
إهتمام العالم بالديمقراطية في لبنان وممارسة الحياة الديمقراطية الطبيعية القائمة على تداول السلطة عبر انتخابات دورية، دفع بالعديد من الجهات الدولية إلى الإهتمام بهذا الإستحقاق والمشاركة في مراقبة العملية الإنتخابية أكان لصحة تطبيق القانون أو الإنفاق الإنتخابي والوسائل الإعلاميّة بعيداً عن القدرة على التحقيق في المخالفات وهذا ما ينطبق على بعثة الإتحاد الأوروبي لمراقبة الإنتخابات في لبنان والجمعيات غير الحكومية المتخصصة في هذا المجال والمقيدة بالقانون والصلاحيات التي تستمدها من «هيئة الإشراف على الإنتخابات» الجهة الرسميّة المولجة السهر على حسن سير العملية الإنتخابية.
تحديات جمّة تواجه «الهيئة» التي يقتصر عملها على رصد المخالفات وتوجيه الإنذارات وتحويل المخالفات التي تقوم بها المؤسسات الإعلامية إلى محكمة المطبوعات التي لم تبت بالمخالفات المحالة إليها منذ 2018.
ويوضح أمين سرّ الهيئة الأستاذ عطالله غشام لـ «نداء الوطن» أنّ عملهم مقيّد بالقانون الذي يحدّ من قدرتهم على التحرّك لوقف المخالفات، في ظلّ تأخّر الدولة أو عدم قدرتها على تأمين الميزانية المطلوبة لاستكمال الطاقم البشري من موظفين ومدققي محاسبة، ما يطرح العديد من التساؤلات حول الجديّة التي توليها الجهات الرسميّة للأعمال المنوطة بهم ليستطرد متسائلاً: «بالبلد، لم يعد هناك شيء قانوني… لا يوجد جهاز رقابي ماشي… بدّك هيئة الإشراف تكون ماشية لحالها ضدّ السياسيين وأهل السلطة؟».
وإذ رأى غشّام أن «جميع المعنيين لا يريدون مراقبة على أعمالهم، إن لجهة الوسائل الإعلامية أو السياسيين المرشحين إلى الإنتخابات»، لفت إلى أنّ «السلطة السياسيّة (الحكومة) لم تعمد حتى تاريخ اليوم إلى تقديم «ورقة أو قلم» للهيئة، واضعاً التأخير في تأمين الميزانية المطلوبة ضمن سياق تفاقم العجز المالي للدولة»، ما دفعه إلى الإعراب عن خشيته من «إقرار الموازنة بعد انتهاء الإنتخابات، ما يعني عدم القدرة على تأمين مدققين ومراقبين للإنفاق على غرار ما حصل في الإنتخابات السابقة». ويبرز ضبط سقف الإنفاق الإنتخابي للعام 2022 من أبرز التحديات التي تواجهها الهيئة في ظل غياب المدققين الماليين وتلكؤ القطاع المصرفي في الإستجابة لمتطلبات المرشحين الذين تقدموا من الهيئة بالعديد من الشكاوى.
ووضع غشّام هذه المشكلة في واقع النظام المصرفي القائم حالياً، داعياً المرشحين الذين لم يتكمنوا من الإنفاق عبر شيكات إلى شرح هذا الواقع خلال تقديم حساباتهم إلى اللجنة التي ستقوم بدورها بالنظر في هذه الصعوبات ومدى تأثيرها، علماً أن القانون حدد سقف الإنفاق الإنتخابي بمبلغ ثابت قدره 750 مليون ليرة لبنانية لكل مرشح بعد أن كان 150 مليون ليرة في القانون 44/2017، ورفع المبلغ المتحرك من 5 آلاف إلى 50 ألف ليرة عن كل ناخب مسجل في قوائم الناخبين في الدائرة الإنتخابية، إلى جانب 750 مليون ليرة عن كل مرشح في لائحة، على أن يتم تسديد جميع النفقات التي تتعدى المليون ليرة عبر شيكات مصرفية.
ولا يغيب الحديث عن «الرشوة» و»شراء الأصوات» عن «الهيئة» المقيدة بالقانون الذي حدّ من صلاحيتها ليقتصر دورها على رصد «الرشاوى» التي توثقها وسائل الإعلام وتحويلها لاحقاً إلى القضاء من دون القدرة على اتخاذ أي إجراء عملاني لضبطها بالجرم المشهود، ما يوحي بأن عمل الهيئة الأساسي قائم بالدرجة الأولى على ما تقدمه الوسائل الإعلامية.
وخلافاً لجميع التحديات التي تواجه عمل «الهيئة»، برز قيام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP بتأمين جميع المتطلبات المالية واللوجستيّة لفريق من المراقبين الإعلاميين (قارب عددهم 30) بهدف رصد وتسجيل المخالفات المرتبطة بكافة المرشحين ووسائل الإعلام ورفعها إلى «الهيئة» وعبرها إلى المجلس الدستوري.
وفي السياق، لفت أمين سرّ الهيئة عطالله غشّام إلى عدم القدرة على اتخاذ إجراءات بحق الجهات التي عمدت إلى تخطي سقف الإنفاق الإنتخابي بأضعاف من خلال الإعلانات العائدة لها، بحيث تعمد بعض الشركات المستثمرة للوحات إعلانية إلى إخفاء هويتها وعدم التصريح عن النفقة الناتجة عن الإعلان لمطابقتها مع تصاريح المرشحين، ليضاف إلى ذلك عدم قدرة «الهيئة» أيضاً على وقف الإعلانات والبرامج أو المرشحين الذين يقومون بإثارة النعرات الطائفية خلال إطلالاتهم المتلفزة عبر «اللغة المنحطّة التي تهدف إلى التفريق بين اللبنانيين من خلال تأجيج الفتن بما يخدم مصالحهم الشخصيّة»، مؤكداً أنّ «الفوضى والفلتان الإعلامي المتزامنين مع إنهيار الدولة العاجزة عن المراقبة والمحاسبة سيتم توثيقهما ورفعهما من قبل «الهيئة» إلى القضاء»، ليختم قائلاً: «أكثر من هيك ما فينا نحكي».
لمراقبة الإعلام حيّز كبير تعوّل عليه الهيئة في ظل عدم قدرة الدولة على مواكبتها في تأمين المدققين الماليين حتى اليوم. وعمدت UNDP إلى تدريب وتجهيز فريق من المراقبين لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة إلى جانب فريق متخصص بمتابعة وسائط التواصل الإجتماعي.
توضح الزميلة ندى عبد الرزاق لـ «نداء الوطن» أنّ عملها يقوم على «مراقبة الظهور الإعلامي لجميع المرشحين والأحزاب والفاعلين السياسيين من خلال متابعة إطلالاتهم ورصد المساحة المتاحة للظهور الإعلامي للمرشحين وما إذا كانت تراعي المساواة، إلى جانب مراقبة الإعلام والإعلان الإنتخابيين وما إذا كان مستتراً (غير مدفوع)، كما مراقبة نشرات الأخبار والبرامج السياسيّة والفكاهيّة التي تستضيف المرشحين إلى الإنتخابات والضيوف الذين يتكلمون باسم أحزابهم»، مشيرة إلى أنّه مع تأليف اللوائح الإنتخابية تتم مقاربة الظهور الإعلامي للقائمة الإنتخابية ككل وليس لكل مرشح على حد سواء مع إختيار بعض اللوائح أحد المرشحين للتكلم باسمها. وإن كانت المخالفة بالنسبة لـ عبد الرزاق تكون عبر الظهور للائحة على حساب أخرى، فإن عمل المراقبين الإعلاميين يقتصر على رصد المخالفات ورفعها إلى «الهيئة» التي تأخذ على عاتقها كيفيّة تقييم وتقدير الأمور.
للصحافة المكتوبة حيّز مهم لدى المراقبين، حيث تعمد الزميلة ندى الحوت إلى تحليل المقالات والوقوف عند طريقة مقاربتها لأخبار المرشحين، إلى جانب تحديد المساحة التي استحوذت عليها اللوائح الإنتخابية في جميع الصحف الصادرة في لبنان.
لتؤكد الزميلة هزام خدّاج التي سبق أن شاركت كما العديد من زملائها في عملية الرصد الإعلامي للإنتخابات منذ 2009، أن عمل «الهيئة» شهد تطوراً لافتاً من خلال التقنيات المتوفرة لعملهم والدورات التدريبيّة التي صقلت مهاراتهم في هذا المجال، ما مكنهم من القيام بعملهم على الرغم من الضغط الذي يشكله إرتفاع عدد اللوائح والمرشحين في الإنتخابات المرتقبة في أيار المقبل.