من المؤكد ان الأزمات النقدية تؤثر في الهيكل الاقتصادي للمجتمعات، وتزعزع الاحوال المعيشية للناس، لذلك من بين الظواهر التي قد تلاحظ خلال الاضطرابات المالية، إحياء بعض الاعمال البدائية أو التقليدية التي قد تكون قد تلاشت أو تراجعت أهميتها في الفترات الاقتصادية الجيدة. وقد لُوحظ في العقود الأخيرة، عودة قوية للمهن الشعبية التي كادت تنقرض في ظل التطور التكنولوجي والعولمة الاقتصادية؛ وتعود أسباب ازدهار هذه الحركة الى البحث عن الهوية الثقافية والاجتماعية، والحرص على التراث الشعبي، إلى جانب التوفير المستدام والاهتمام بالمنتجات اليدوية ذات الجودة العالية. وتجسد بعض الوظائف تاريخا حافلا بالحكايات والتقاليد، وتعكس مهارات وفنون يدوية تتوارثها الأجيال.
تاريخ حافل!
بالإضافة الى ذلك، تتمتع هذه المهنة بتاريخ طويل يمتد لآلاف السنين، ويُعتقد أن ماضيها يعود إلى العصور القديمة، حيث كانت تُستحدث الأحذية من مواد طبيعية مثل الجلود والخشب. وفي تلك الأوقات، كان من الضروري الاهتمام بصيانتها للحفاظ عليها وتجنب التلف. واستمرت في الارتقاء على الرغم من نهضة هذه الصناعة وتَغير المواد المستعملة في التصنيع. لتتحول بمرور الزمن الى حرفة أكثر تخصصا وخبرة بعد ان تطورت التكتيكات المستخدمة فيها. وحتى اليوم، لا تزال تلعب دورا مهما على المستوى المحلي وتعتبر جزءا من الصيانة اليومية للأحذية، وتحظى بشعبية في العديد من الثقافات والبلدان.
السعي الشريف ليس عيبا!
وفي هذا المجال، اوضح السيد خاتشيك فاروجيان صانع أدوات تلميع للأحذية في منطقة برج حمود لـ “الديار” “ان انتعاش هذا العمل يعود إلى البحث عن مصادر دخل بديلة في ظل الشظف الحاصل وعسر الوضع المعيشي للأسر، بحيث يتحرّى البعض عن مجالات جديدة تساهم في تأمين رواتبهم، وقد تكون المهن البدائية أو التقليدية فرصا متاحة وسريعة للبدء. موضحا ان مصاريف هذه الحرفة متدنية ولا تحتاج سوى امتيازات بسيطة وأدوات قليلة التكلفة، مما يجعل من السهل ممارستها بدون الحاجة إلى استثمارات كبيرة. ومؤخرا ارتفع الطلب على المنتجات المحلية واليدوية، وبات يفضّل الكثيرون دعم الاقتصاد المحلي والمجتمعي”.
متى ظهر هذا الاختصاص؟
وأضاف، “يعتبر هذ الكار عتيقا جدا ويرجع إلى العصور القديمة، حيث بدأ على الأغلب كحاجة للمحافظة على الاحذية التي كانت في ذلك الوقت تعد قطعة أساسية من الملابس ووسيلة لحماية القدمين من العوامل الجوية والظروف الصعبة؛ ويرتكز على مجموعة من المهارات والتقنيات التي يتعلمها الفرد عادةً من خلال التدريب والخبرة. فوق ذلك، على العامل في هذا المجال أن يكون دقيقا ومتقنا في عمله وخفيف الظل، ولديه القدرة على تحديد نوعية الجلد ومتطلبات العملاء واختيار المواد المناسبة والأدوات الصحيحة لكل نوع من الجِزَم”.
مهنة من لا مهنة له!
في موازاة ذلك، صار مألوفا ان نجد رجلا كهلا يزاول مهنة قد يراها البعض انها تستصغر من شأن شاغلها، لكن السيد زياد البالغ 65 عاما لم يجد في هذه الصنعة ما يقلل من قدره، حيث يجلس في منطقة السوديكو امام احدى البنايات و “يتحشّر” بالمارة ليكسب أجرته بعرق جبينه”.
وقال لـ “الديار”: “بالرغم من الرقي الكبير في هذا الحقل، لا تزال فئة من المواطنين ترغب في الاعتناء بالأحذية بشكل يومي كجزء من الحفاظ على “البريستيج” وهذا الامر يتميز به اللبنانيون؛ لافتا الى ان ظهور مواد وأدوات جديدة ساعد في تسهيل عملية التلميع وتحسين نتائجها. كما أن الطلب على خدمات مسح “الصبّاط” او “السكربينة” قد تغير مع تقدم الموضة وظهور موديلات جديدة بتصاميم متنوعة، مما جعل هذه الحرفة تستمر في البقاء حية وتناسب الاحتياجات الحالية”.
وتابع “في السنوات الأخيرة، شهد هذا الميدان صحوة ملحوظة وأضحى جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الحياة اليومية في لبنان بعد أن كاد يختفي تماما، باعتباره محترما ومهما للذين يفتشون عن مردود نقدي اضافي. لكن مع فورة الحياة الحضرية وانتشار أخفاف أكثر تعقيداً وصعوبة في التنظيف، بدأ يفقد تدريجياً أهميته لكن ما لبث ان عاد مرة أخرى لينشَط من جديد. وترجع أسباب نجاحه إلى الإقبال المتزايد على الأحذية التقليدية والجلدية، التي تتطلب عناية خاصة وتلميعا دقيقا للإبقاء على قيمتها ومتانتها. بالإضافة إلى ذلك، تضاعف الوعي بأهمية صيانتها وتجديدها بدلا من شراء أخرى جديدة بشكل متكرر، كبديل اقتصادي وبيئي”.
وأضاف “عادةً ما يكون مهنيو مسح الاحذية في لبنان من العمالة غير المهرة والذين يتلقون تمرينات مبسطة على ممارسة هذه الصنعة. ومع ذلك، يبدي العديد من الشباب اليوم اهتماماً كبيرا بهذه الحرفة ويسعون إلى تطويرها وعصرنتها باستخدام اساليب ومنتجات أحدث، مما يعزز من مكانتها ويساهم في نموها”.
من الأدوات الضرورية.. “طيب الكلام”!
واكد “ان اللسان الجيد، اداة قوية في التواصل ويساهم في بناء علاقات مستدامة مع الزبائن مما يزيد من فرص الولاء، كما يساعد في توضيح فوائد ومميزات الحفاظ على الأحذية من خلال طلائها وتشميعها وهذا يجعل الزبون يفهم قيمة الخدمة المقدمة له. وتطرق الى المواد المستخدمة، ومنها:
1. فرشاة الجلي: لفرك وتلميع الأحذية بعد وضع المعجون أو الشمع.
2. المعجون: لصقل الأحذية وإعطائها لمعانا جميلا، ويتوفر بألوان مختلفة بحسب لون الحذاء.
3. الشمع: للحماية واضافة البريق ويمكن وضعه بعد المعجون.
4. قطع القماش الناعم: لمسح الأحذية وإزالة الأتربة والشوائب قبل وبعد التلميع.
5. الملمع السائل: تعتمد بعض التقنيات الحديثة الملمعات السائلة بدلاً من المعجون التقليدي.
6. فرشاة ناعمة: للتنظيف بلطف وإزاحة الأتربة قبل العمل
7. قماش قطني لطيف: يستعمل بعد المعجون أو الشمع.
8. مناديل للتطهير: لتنقية الأحذية بينما يرتديها الشخص.
لماذا أكثرية “البُويجيّة” من كبار السن! يجيب، “هناك بعض الأسباب التي قد تجعل الرجال المتقدمين بالعمر يمتهنون مسح الأحذية، كالخبرة والمهارة والاستقرار المهني للحصول على دخل إضافي بطريقة ميسّرة ومباشرة. ويجد البعض ان هذه الممارسة لا تتطلب معدات مكلفة أو تكلفة عمل عالية، مما يجعلها مناسبة للبدء فيها في سن متقدمة”.