ان أسس العمل الإنساني والإعلامي ينبع من جوهر أخلاقي وميداني، يهدف الى تخفيف المعاناة عن شعب حلت به كارثة او مصيبة او حرب، من جهة أخرى خلق هامش لتمكين الجهات الفاعلة من تقديم العون غير المشروط مدفوعا بالاحتياجات الإنسانية فقط. ومن المؤكد ان عدم استباحة المساحة الشخصية لأي فرد، كبيرا كان ام صغيرا، يبقى الأساس الذي يجب الانطلاق منه، لا ان تُستخدم صورهم لتوظيفها في مجالات معينة، والذي يعد استغلالا لعدم قدرتهم على اخذ قرار بالقبول او الرفض لجهة ظهورهم على مواقع التواصل او الشبكات الإعلامية بإطار جدا مسيء للجوانب الإنسانية، خاصة انهم الفئة الأكثر ضعفا نتيجة ما حل بهم ،على سبيل المثال الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، وكان كارثة العصر لم يخل من استعراض علني للضحايا، وما فيه من رؤية عنيفة على النفس البشرية.
ان المبادئ الإنسانية التي تتناول العاملين في مجالي العمل الإنساني والصحافي تقوم على حماية حرمة الانسان في أوقات الكوارث، وفي توظيف الفعل بشفافية ومهنية عالية من اجل تعزيز التكامل الإنساني قبل أي شيء آخر، فشركاء العمل الإنساني تقدر جهودهم كما الجسم الإعلامي، والغرض هو تقليص العناء.
الأسوأ من الآثار النفسية للزلزال، هو سفك خصوصيات الضحايا والمصابين الذي يخالف شرعة حقوق الانسان، وهو ما اعترفت به القوانين الدولية ووثقته المنظمات الحقوقية والإنسانية.
“الديار” سلطت الضوء على ظاهرة خرق حرمة الضحايا من أطفال وكبار ومصابين، وآثار ذلك عليهم نفسيا واجتماعيا ، وعلى المشاهد الابعد عن بؤرة الكارثة، وانتشار هذه الحالة في السوق الإعلامي الاجتماعي لما فيها من استغلال لمشاهد تخرق حرمة الانسان ذات نفسه، بهدف جذب مشاهدين او متابعين، وهو امر يجرد هذه الوسائل من القيم والاصول ومن مهنيات العمل الإعلامي والصحافي والإنساني، والذي كان يفتقر الى القواعد البشرية في كثير من الصور والفيديوهات.
الناحية النفسية – الاجتماعية
تقول الباحثة الاجتماعية والنفسية سهير الغالي، “من المتفق عليه انه في ظل الازمات التي يتعرض لها الانسان والمجتمعات، لا سيما بعد الزلزال الذي فتك بتركيا وسوريا والذي شكّل صدمة جماعية وتخطى الأشخاص. وقد ترجم عند البعض بردود فعل مختلفة كالغضب والبكاء والصراخ واكثرها كان بالتعاطف”. وتتابع: “البعض انتابته نوبات من البكاء تجاه أنفسهم والاخرين بطريقة انفعالية هستيرية، ليتحول هذا القلق من الادراك بعدم الأمان والتهديد والخطر الى تقديم المساعدة، وعليه فان الحملات التي نشاهدها وما يتم تناقله عبر مواقع التواصل تخضع لتفسير اولي، والذي هو كناية عن ردود فعل جماعية لتفريغ المشاعر التي خلقت القلق والتوتر والوعي بالخطر، الى الاحساس بالشفقة والتعاضد”.
محاذير إنسانية
في هذا الإطار، يوجد خطوط حمر، بحسب الغالي، لا يجب اختراقها، “فالأشخاص العاديون والغير معنيين بالعمل الإنساني والاجتماعي والنفسي، يتعمدون القيام بتصرفات من شأنها ان تلحق الضرر بمن هم تحت واقع الكارثة بشكل مباشر”. وتضيف: “هذه الأفعال باعتبارها ناتجة من قلة الوعي وعدم الادراك، هي نابعة من ردة فعل طبيعية. والواجب ان نتوجه للعاملين في المجال الإنساني والإعلامي بالحفاظ على اخلاقيات المهنة، ولو كنا جميعا تحت الصدمة الجماعية، فهناك مبادئ عامة لا بد من الالتزام بها تحمي المتضررين من الحوادث والضحايا الذين يرزحون تحت تأثير هذا الضرر”.
وعن هذا الجانب تعتبر الغالي، “ان هذه القواعد تقوم على حقوق الانسان، وقواعد اخلاقيات المهنة التي تعنى بحقوق الأطفال، ولدينا اساسيات واخلاقيات خاصة ترعى شرعة العمل الإعلامي والعاملين في الحقل الإنساني”، وتشير الى “ان الجوهر الذي يقوم على مبدأ الحماية وعدم الحاق الضرر بالآخر، كصور الأطفال التي يتم تداولها على مواقع التواصل، سواء كان من ينشرها متخصصا ام لا”.
وتؤكد “ان القانون اللبناني يمنع توظيف وجوه الأطفال او الضحايا والنساء بشكل ظاهر”، وتلفت “الى ان القانون يعاقب على هذه الأفعال، وهناك النقطة الأخرى التي تتعلق بالمجلس الأعلى للطفولة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية التي قامت بتعاميم مرات عديدة لشُرَع من ضمن اتفاقيات حقوق الطفل والانسان، والذي يجرّم استخدام صور مباشرة وواضحة لهؤلاء، وهو ما يعتبر مخالفا للقانون والإنسانية واخلاقيات المهنة في مجال العمل الانساني”.
ما يجب القيام به
وفي هذا السياق تقول الغالي لـ “الديار”: “المطلوب في حال أراد الفرد التعبير عن الألم الذي يعانيه الجرحى بغية تقديم المساعدة من خلال الاعلام، إخفاء هوية المتضرر او الضحية، تغطية الوجه وتغيير الصوت، هذه مجموعة أمور يجب الالتزام بها قبل عرض أي مشاهد تعود لهؤلاء بشكل مباشر”. وتشدد على “وجود ضرر نفسي كبير للضحايا انفسهم، فعادة عندما يكون الانسان تحت وقع الشدّة لا يفقه ما يدور حوله، وينفصل كليا عن الواقع وما يحدث حوله لعدم ادراكه، وقد تخرج منه ردود أفعال وتصرفات تعريه من الناحية النفسية والاجتماعية”. وتطالب الغالي ممن هم خارج حلقة الخطر “الستر وتقديم العون والمساعدة ليتخطوا المصاب الذي حل بهم لا ان نزيدها عليهم”. وتردف: “لا شك ان الأطفال او الاهل الذين يشاهدون صورا تعود لهم ستؤثر فييهم سلبا في الوقت الحاضر والمستقبل، وربما يعاودون عيش المأساة من جديد، وهذا قد يدمرهم ويدفع بعضهم نحو الانتحار في حال لم يتلقوا المساعدة المطلوبة”.
مبدأ الحماية
تقول الغالي “عندما يريد أي انسان نشر صور تعود لضحايا، يجب الحصول على اذن من صاحب العلاقة او المسؤول عنهم، والذين هم بحكم المأساة ليسوا بكامل وعيهم لمعرفة الصواب من الخطأ. ومع ذلك، يجب اخذ الاذن، وفي حالة الكوارث لا يوجد. من هنا المطلوب ان يكون الفرد هو صاحب القرار، ويترتب عليه الانطلاق من مبدأ القيام بالحماية، الذي يتغلب على مبدأ نشر هذه الصور لغايات منها تأمين تبرعات او تقديم مساعدات”.
تتابع: “الاذى لا يشمل الأشخاص المتضررين مباشرة، من جرحى او ضحايا وقتلى، انما يصيب فئة كبيرة ليكون جماعيا، بحيث تنتشر اخبار فيها من الترهيب والخوف، إضافة الى نبش تهويلات قديمة تغذي الرعب في نفوس الناس”. فعلى صعيد لبنان مثلا تقول الغالي، “تعرضنا للكثير من الهزات والانفجارات والحروب، واقربها كان تفجير مرفأ بيروت، وعندما يشاهد المواطنون صورا لثكلى فهذا يفتح الجروح القديمة ويستنزف طاقتهم، ويضاعف القلق والمخاوف والاضطرابات النفسية والمشاكل الاجتماعية”.
وتتابع: “باتت تسيطر حالة من الهلع على المجتمع، لا بل أكثر من ذلك لاحظنا ارتفاع على طلبات المساعدة النفسية لبعض الأطفال، فنتيجة الخوف باتوا يعانون من التبول اللاإرادي، الى جانب مؤشرات مقلقة أخرى اتجاه الصحة النفسية عند الأطفال والكبار”.
ما يُعرض يؤثر على الأطفال
تقول الغالي “على الاهل ومقدمي الرعاية ان يتحملوا المسؤولية في هذا الإطار، كونهم يجعلون أطفالهم يعيشون هذه الاحداث لحظة بلحظة، من خلال تركهم متابعة الاخبار او من جراء الأحاديث التي تدور في نقاش عقيم تتمحور حول اهوال الزلزال وكأنها القيامة، ما يؤثر على الاطفال بشكل مباشر من دون ان يتنبّهوا الى خطورة الامر على صحة أطفالهم وشبابهم”.
وتنصح الغالي الاهل “الا يتطرقوا الى الاخبار التي تتناول الهزات والزلازل او السلبية التي تتحدث عن الضحايا، بل توفير الأمان والاطمئنان، والتطلع الى تقديم الدعم والانصات لهم فيما إذا كان لديهم هواجس، لتشجيعهم على التعبير والافصاح عما يشعرون به”. وتختم “في حال لوحظت مؤشرات لزيادة الخوف والقلق وباتوا ينامون مع ذويهم في الغرفة والسريرنفسيه، إضافة الى عدم الرغبة في الذهاب الى المدرسة، فعليكم التيقّظ ان اولادكم يمرون باضطراب نفسي ويجب تقديم المساعدة”.