تستمر الحروب في إحداث دمار هائل ليس فقط على الصعيد العسكري، بل على مستوى الأفراد والمجتمعات. فالمعارك تسلخ الإنسان عن أرضه وبيته باستخدام القوة العسكرية المدمرة، مما يعرض المواطنين لأبشع أنواع التهجير والقسوة. وقد شهد العالم منذ السابع من تشرين الأول 2023، تصاعدا مروعا في المجازر والإبادات الجماعية التي تُرتكب بدم بارد من قبل العدو الاسرائيلي في غزة وجنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت. اذ تُظهر المشاهد المؤلمة التي نراها كيف أن آلة الحرب الصهيونية تفرض فظاظة لا توصف، حيث يُجبر الاشخاص على النزوح عن أراضيهم وبيوتهم، تاركين وراءهم ذكريات حياتهم التي تحولت إلى رماد بسبب القنابل الفوسفورية والقصف العشوائي.
ومع استمرار هذه الملحمة حتى العام الحالي، احتدّت وتيرة العنف بشكل غير مسبوق، مما دفع العائلات الجنوبية في لبنان إلى النزوح إلى المناطق الأكثر أمانا في المتن والجبل والشوف؛ علما أن عدد النازحين المسجلين حتى الآن قد تجاوز 100 ألف نازح. وفي هذا السياق، كشف رئيس لجنة الطوارئ في حكومة تصريف الأعمال، وزير البيئة ناصر ياسين، أنه “في حال توسع دائرة الصراع، فإن لبنان بحاجة إلى حوالي مئة مليون دولار شهريا لسد احتياجات النازحين”.
مافيا العقارات تستشرس!
بالموازاة، لم يمر هذا النزوح الكبير دون أن يستغله أصحاب العقارات لصالحهم، فبدلاً من أن تكون هذه الأزمة فرصة للتكاتف والتضامن، قام العديد من الملاك برفع أسعار الإيجارات بشكل جنوني. ولم تقتصر الزيادة على الضعف أو الضعفين فقط، بل وصلت إلى عشرة أضعاف وأكثر في بعض الحالات. وانطلاقا من كل ما تقدم، أضحت الشقق التي كانت تُؤجر بمبلغ 150 دولارا شهريا تُعرض الآن بأسعار تصل إلى 6000 دولار شهريا.
هذا الارتفاع غير العادي في الأسعار ترك العائلات النازحة في وضع مأساوي، فبينما تمكنت العائلات المرتاحة ماديا من تأمين سكن بأسعار باهظة، وجدت العائلات المتوسطة والفقيرة نفسها عاجزة عن تحمل هذه النفقات. واضطر البعض للعيش في ظروف غير إنسانية، في شقق مكتظة أو مراكز إيواء مؤقتة، بينما بقي البعض الآخر في مناطق النزاع غير قادر على تحمل مصاريف النزوح”.
تُبيّن هذه الظروف بوضوح كيف أن جشع البعض قد يؤدي إلى تعميق معاناة الآخرين في أوقات الأزمات، حيث يُستغل الفقر والخوف لرفع الايجارات بشكل غير عادل، مما يفاقم من الصعوبات التي يواجهها المواطنون الذين يعانون بالفعل من آثار الحرب.
الامتار أغلى من الذهب!
اكدت مصادر في حركة امل لـ “الديار” “أن النزوح الجماعي أدى إلى مطالبة أصحاب البيوت والشقق السكنية بأسعار مضاعفة، بحيث بلغ بدل إيجار شقة مكونة من ثلاث غرف حاليا ما بين 1000 و1500 دولار، حسب موقعها والخدمات المقدمة مثل اشتراك المياه والكهرباء وحتى الرسوم البلدية، وقد يقفز الإيجار إلى 4000 دولار أو ربما أكثر. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إيجار هذه الشقق كان في الظروف العادية يتراوح بين 300 و400 دولار. وانطلاقًا من كل ما سبق، أصبح النزوح خيارا لمن استطاع إليه سبيلاً، أما الفئة التي لا تزال صامدة فتعيش في اوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة”.
النزوح للميسورين فقط!
وكشفت مصادر سياسية متابعة لهذا الملف لـ “الديار” عن ” أن موجة النزوح الأخيرة هي الأكبر منذ بداية الحرب، إذ لم يعد النزوح مقتصرا على قرى الجنوب ومدنه، بل امتد إلى ضاحية بيروت الجنوبية، حيث تقوم به العائلات الميسورة ماديا أو التي لديها مغتربون. أما الأسر الصامدة في بيوتها، فترجو ألا تتسع رقعة الحرب. وأضافت، مع تزايد أعداد الباحثين عن بيوت للإيجار، ترتفع صرخة الجنوبيين النازحين ضد الاستغلال الذي تمارسه “مافيا قطاع العقارات” في المتن والجبل والشوف ومناطق لبنانية أخرى، من المفترض أنها آمنة”.
لا من يسمع ولا من يحزنون!
اوضح أحد النازحين من بلدة كفركلا لـ “الديار”: “ان النازح يُجري مفاوضات مع صاحب الشقة قبل إخلاء منزله والانتقال إلى سكن النزوح المؤقت، لكن الأسعار غير منطقية، إذ تتراوح بين 1000 دولار وتصل إلى 6000. لكن ما يحدث حاليا هو أن كل ثلاث عائلات تستأجر شقة واحدة لتتقاسم بدلات الإيجار والمصاريف. ولفت إلى أن المناطق المرغوبة والمقصودة هي الجبل، الشوف، وبعض المناطق المتنية. وتعتبر هذه البلدات في الأصل أماكن سياحية، وأسعار الشقق فيها مرتفعة، لكنها لا تصل بالتأكيد إلى 3000 دولار. من هنا نجد أن عشرات تجار العقارات استغلوا هذه الأزمة وضاعفوا الإيجارات بشكل هستيري. مع العلم ان جميع الأهالي دون استثناء نزحوا من القرى التي تبعد بحدود عشرات الكيلومترات عن المواقع العرضة في شكل دائم للقصف”.
بدّي بيت على الأرض… مش بالجنة!
بالتوازي، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لسيدة من النبطية اتصلت بأحد المكاتب العقارية في سوق الغرب لاستئجار منزل. وحين استفسرت عن التفاصيل، أجابتها الموظفة بأن الشقة ستكون متوفرة بدءا من 8 آب، وأنه من الضروري حجزها مسبقا، ويبلغ الإيجار الشهري 1900 دولار، بالإضافة إلى عمولة المكتب التي تصل إلى 300 دولار، ومبلغ الحجز الذي يبلغ 700 دولار في حال وافقت العائلة على العرض. وهنا ردت السيدة بلهجة ساخرة: “حضرتك فهمتيني غلط، أنا طالبة شقة بسوق الغرب، مش بالجنة! معقول أدفع 2300 دولار بالشهر بدل إيجار شقة؟”
المدخرات ذهبت هباء منثورا!
أما عائلة أحمد، التي كانت تعيش حياة بسيطة في قرية حدودية وتعتمد بشكل أساسي على الزراعة وتربية المواشي، فقد اضطرت للنزوح من قريتها بحثًا عن الأمان في مناطق المتن. ولكن عند وصولها إلى هناك، واجهت واقعا صادما، فالأسعار التي كانت تُعتبر معقولة سابقا أصبحت الآن خيالية.
ويقول لـ “الديار”: “لقد جمعت بعض المدخرات خلال سنوات عملي، لكن فوجئت بأن إيجار شقة صغيرة لم يكن أقل من 4000 دولار شهريا. هذا المبلغ كبير جدًا خاصة مع توقف دخلي الزراعي بسبب النزوح؛ حاولت البحث عن خلف أقل تكلفة، ولكن حتى هذه البدائل كانت بعيدة المنال”.
أضاف “أُرغِمنا على الانتقال من شقة إلى أخرى، مما استنزف مدخراتنا بسرعة، وعانينا من عدم الاستقرار والشعور الدائم بالخوف من المستقبل. في نهاية المطاف، وجدت نفسي مكرها على العيش في شقة مشتركة مع عائلة أخرى لتقليل التكاليف، مما زاد من معاناتنا وضيق العيش. جعلتنا هذه التجربة المؤلمة رغم المخاطر نفكر جديا بالعودة إلى قريتنا في “الشهابية”، حيث أدركت أن الحياة في المناطق الآمنة لم تعد ممكنة لي ولعائلتي بسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار. وهذا يضعنا أمام خيار مرير، اما المجازفة بحياتنا في مناطق النزاع أو البقاء في أمان نسبي مع مواجهة الفقر والضيق!”
المال اقوى سلاح!
وأشار المصدر في حركة امل لـ “الديار” الى “أن المجموعات الأقل حظًا، خاصة تلك التي تعيش على رواتب متواضعة أو تعتمد على الزراعة في المناطق الحدودية، تعاني من مأساة حقيقية. وتواجه خيارا قاسيا يتمثل إما في البقاء، مما يعرض حياتها وحياة أبنائها للمكاره، أو محاولة المغادرة دون القدرة المالية على تحمل تكاليف الإيجار في المناطق الآمنة. ويكشف هذا الوضع الكارثي عن التباين الصارخ في قدرة الناس على التعامل مع الكوارث، حيث يجد الأكثر فقرا أنفسهم عالقين في مناطق الخطر، غير قادرين على الهروب إلى بر الأمان بسبب الظروف المالية الصعبة”.
وفي هذا المجال، علمت “الديار” أن بعض أصحاب الشقق السكنية قاموا بإخراج المستأجرين السوريين الذين كانوا يدفعون بدلاً شهريا قدره 150 دولارا، وأجروا الشقق لعائلات جنوبية بمعدل إيجار يبلغ 1100 دولار شهريا.
حكومة غير فاعلة وخطة مهزوزة!
وقالت مصادر وزارية مواكبة لخطة الطوارئ لـ “الديار” “في ظل تصاعد الاشتباكات العسكرية واستمرار النزاع، أعدت حكومة تصريف الأعمال في لبنان خطة طوارئ تهدف إلى مواجهة أسوأ السيناريوهات المحتملة في حال توسعت الحرب. ورغم أن الخطة تتضمن عدة نواحٍ، إلا أنها تفتقر الى التمويل، إذ لا تتوفر الاموال اللازمة لتطبيقها بشكل فعال. فالقطاع الصحي ليس في أفضل حالاته، إذ يواجه نقصا في المعدات والموارد البشرية في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى اسعافات طبية عاجلة”.
أضافت “في ما يتعلق بالأدوية، فرغم كلام المسؤولين بأن هناك مخزونا يكفي لستة أشهر، فإن الواقع يشير إلى أن هذه التصريحات لا تعدو كونها محاولة لطمأنة الناس. لكن في الحقيقة، قد ينفد هذا المخزون بسرعة أو يذهب جزء كبير منه إلى السوق السوداء، خاصة إذا تعرض المطار والمرافئ البحرية للاستهداف، ما سيؤدي إلى انقطاع سلسلة التوريد الدولية”.
وختمت المصادر “المشكلة الحقيقية التي تواجه المواطن اللبناني ليست في توفر الغذاء أو الدواء أو المحروقات فحسب، بل في كيفية الوصول إلى هذه المتطلبات في حال ارتفعت الأسعار بشكل جنوني بسبب نقص الإمدادات أو زيادة الطلب. فمع قلة السيولة وارتفاع الأسعار، يصبح تأمين الضروريات الأساسية تحديا كبيرا يتخطّى طاقة الكثيرين، مما يضعهم أمام خطر الجوع أو المرض أو حتى الموت في غياب الدعم الحكومي الفعلي”.