تأويلات كثيرة لفحوى “التشرّد” منها، العيش في مسكن دون المستوى او ملكية آمنة. الناس الذين يقضون ليلهم ونهارهم على جوانب الطرق، دون ان يكون لديهم بالحد الادنى غرفة او حمّام خاص، او ان يسيرَ أحدهم هائما على وجهه بثياب رتّة تشبعت “بالقاذورات”، وشعر غزاه الشيب، ووجه طاف بالتعب والارهاق، وتمددت اليه علامات التقدم بالسن، كلها أنواع من تشرذم التشرّد، فيها غبن للقيم الإنسانية والاجتماعية.
وفقا لمنظمة “كرايسيس الخيرية” التي تعنى بالتشرد، فالمنزل ليس نطاقا ماديا فقط، بل يزود قاطنيه بالجذور والهوية والأمان، وصولا الى الانتماء وهو ملاذ للرفاهية العاطفية. والمشردون هم غير القادرين على الحصول على مسكن دائم وآمن ، نظرا لعدم ثبات الدخل المادي، بحيث ان الفقر والتشرد متلاصقان ومترابطان لجوهر المعاناة الحقيقي.
من خلال توثيق المشاهدات لأكثر من حالة، هؤلاء الشيوخ من كبار السن، لم يتفنّنوا في كل ما تقدم، ولم يخضعوا لمكياج سينمائي غيّر ملامحهم بالكامل، كما انهم لم يصبغوا شعرهم بالأبيض كموضة رائجة او كـمتنكرين في عيد “هالوين”، ولم يصطنعوا من الحزن مهنة، وليسوا سعداء كونهم بلا وقار او تقدير.
بعضهم في العقد الستين والسبعين والثمانين، منهم من يعمل على قدر المستطاع بحسب ما تسمح له ظروفه الصحية وقوته البدنية فيجمع القمامة، والبعض الآخر يفتش فيها عن بقايا طعام ليسدّ رمقه. وآخرون، ان رأيتهم ظننتهم موتى، او تكاد رائحة الموت تفوح منهم، يطأطئون رؤوسهم لبعض المارة، وبدلا من تقبيل اياديهم ورؤوسهم المثقلة بالهموم والوجع والخذلان، ينحنون تذللاً لبعض الليرات التي لا تشتري ربطة خبز او تؤمن احتياجات هذا المسن الضرورية من دواء او مستلزمات أساسية.
التشتت الاكبر، ان معظم هؤلاء ينامون فوق كَومة كبيرة من النفايات حيث الحشرات والبكتيريا، وما يشد الانتباه أكثر ان انتشار هذه الظاهرة باتت كبيرة في الآونة الأخيرة، حيث تم رصد العديد من الحالات في مناطق مختلفة لأسباب متعددة منها: الغلاء الفاحش لإيجارات المساكن، ودولرة كافة القطاعات الحياتية، الى جانب الازمة الاقتصادية، وأيضا هجرة الأحبة والاقارب.
وفي سياق متصل، تلقّت “الديار” بالأمس “فيديو” لسيدة كبيرة في السن من ذوي الاحتياجات الخاصة، كانت تجول في احدى المناطق اللبنانية هائمة، لا تعي اين هي او من تكون، وتمّ رشقها بالحجارة، ومن ثم وضعها في مكب للنفايات بأبشع صورة تناقض القيم الإنسانية. “الديار” تواصلت مع المراجع المختصة التي عمدت الى نشر “الفيديو” ليتبين انه صحيح. وبعد عملية اتصالات واسعة تم تسليم السيدة الى عائلتها.
حق وواجب!
كيف يمكن حماية الكبار في السن؟ من هي الجهات المخولة لاحتوائهم ومراعاة ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية؟ ماذا تعني الحياة لمشرد في الشارع، خاصة إذا كان كبيرا في السن؟ ولماذا وكيف أصبح كبير السن مشردًا في الشارع؟ هل هو وحيد دون عائلة أم له عائلة وتخلت عنه؟ من هي الجهات المعنية بكبير السن المشرد؟ وما هي حقوقه وممن يطلبها؟
هذه الأسئلة حملتها “الديار” الى المدير الأسبق لدار العجزة في لبنان الدكتور عزام حوري فقال: “مما لا شك فيه أن الاستقرار والتماسك العائلي هما أساس الحماية لكل فرد في العائلة، كبيرًا كان أم صغيرًا، وهذه واحدة من الضمانات الأساسية لحمايته”.
ويضيف: “أيضًا التربية المنزلية والتحلي بالقيم السامية التي حثّت عليها جميع الشرائع السماوية باحترام وتوقير الكبير في البيت والمنزل وفي المجتمع، وعلينا البناء على أن سُنة الحياة هي أنه سيصبح كل فرد منا يومًا ما كبيرًا في السن، لذلك عليه الاحتياط الواجب قبل بلوغ هذه المرحلة”.
القانون لا يحمي كبار السن
ويشير حوري الى ان “اي كبير سن مشرد في الشارع لا يحميه أحد، حتى القانون غير موجود ليحاسب الجهة المسؤولة عن تشرّده في الشارع. إذن، ستتحول حياته إلى بؤس وقلق واحتمال الإصابة بالأمراض ليصبح عالة على أفراد المجتمع، ليأتي من يتحنّن او يتفضّل عليه بوجبة أو قطعة ملابس وغيرها من الأمور المقتدر القيام بها”، ويلفت الى انه”غالبًا ما يضع الناس اللائمة على مؤسسات رعاية كبار السن قبل ملامتهم للأهل أنفسهم. لذلك علينا أولًا، البحث عن أسباب وجوده في الشارع والدوافع التي أدت إلى ذلك”.
ويؤكد “ان التفاعل معه يمكن ان يكون من خلال الجيران الموجودين بالقرب منه لجهة التعرف عليه أو على عائلته، كما يمكن لمختار الحي القريب القيام بمهمة مماثلة، والهدف هو مواجهة صاحب المسؤولية بتصرفه لوضع النقاط على الحروف، ومحاولة إيجاد مخرج لهذا الموضوع”.
ويتابع، “في المقام الآخر يمكن للنيابة العامة أن تقوم بالبحث في اتجاهين:
- الأول: معرفة عائلته.
- الثاني: إدخاله إلى مؤسسة رعائية مناسبة.
وقال حوري: لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار الوضع الصحي لكبير السن، خوفًا من أن يكون مصابًا بمرض معدٍ، لذا من واجب النيابة العامة تحويله إلى مستشفى حكومي لإجراء الفحوصات اللازمة قبل تنفيذ أمر إدخاله إلى مؤسسة رعاية”.
وفي سياق انساني متصل، يقول حوري “علينا الحرص على القيم الإنسانية السامية، والتمسك بالشرائع السماوية وبالعادات الشعبية التي تكّرم كبير السن وتحترمه. وهنا لا بد من التطرق الى أن منظمة الأمم المتحدة أصدرت قرارًا حددت فيه بعضًا من حقوق كبار السن أذكر منها: الكرامة، تحقيق الذات، المشاركة، الاستقلالية، الحماية الصحية والرعاية وغيرها”.
العمر من الستين وما فوق
في هذا المجال يقول حوري،” مفهوم تعريف كلمة كبير السن تتفاوت من مؤسسة او منظمة إلى أخرى، ولكن في الإحصاءات الدولية يتحدثون عن الستين وما فوق. وفي بعض مجالات التقاعد يتحدثون عن سن الخامسة والستين وما بعدها. مع العلم، ان هؤلاء الكبار يمكن أن يكونوا مستقلين وقادرين على خدمة أنفسهم بأنفسهم أو غير مستقلين، أي بحاجة للمساعدة والدعم من الآخرين”. ويتابع “يجب ألا نلقي بالمسؤولية جزافًا هنا وهناك، بل علينا تحليل المواقف والخروج باستنتاجات صحيحة، وبالتالي إيجاد الحلول المناسبة”.
ويشير الى “إن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق جهات عدة معًا، بدءاً من الدولة ووزارات الخدمات، الأسرة والعائلة، التربية المدرسية وأخيرًا الشخص نفسه. كما إن التفاعل الصحيح بين الجميع يؤدي إلى الحماية الاجتماعية والمجتمعية، على قاعدة الجميع في خدمة المحتاج أو الضعيف أو المريض إلخ”.