نضال العضايلة
لاشك أن الساعات الماضية كانت أكبر وطأة على المراقبين لأحداث التطورات بين روسيا وأوكرانيا مما حملته الأيام القليلة الماضية، التي تقاطعت مع عقوبات أمريكية على روسيا ومباركة دولية للموقف الأمريكي، فقد أمرت روسيا بزيادة وتيرة الحرب القوات الروسية خصوصاً في مناطق قرب الحدود مع أوكرانيا، فيما يبدو أنه بداية جديدة لحشد عسكري شمل عشرات الآلاف من الجنود.
في وقت سابق كانت واشنطن قد عبّرت عن مخاوفها من زيادة التصعيد العسكري، مشيرة إلى أن موسكو قد استنزفت ذريعتها لدخول أوكرانيا كما حدث عام 2014 عندما ضمت شبه جزيرة القرم، وفي هذا الوقت انقسمت آراء المعلقين في واشنطن بشأن أهمية أوكرانيا للمصالح الأمريكية العليا وهو ما سأتناوله في نقاط لاحقة.
ومثلما يناشد زيلينسكي الولايات المتحدة وأوروبا تسريع عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي الذي فإن روسيا تعتبر ذلك بأنه “خط أحمر” من شأنه أن يمد في عمر الحرب.
وبعيداً عما يمكن أن يطلق عليه الحرب الباردة الجديدة بين أمريكا والغرب من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، أرى أنه من الضروري العودة بالذاكرة إلى فترة التسعينيات عندما رأى بوتين أن روسيا تتعرض “للإذلال” من قبل الغرب، وكان يعتقد ويصرح دائماً بأن الغرب عمل على فرض رؤيته للنظام العالمي، وأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، وقتها لاحظ كثير من المحللين أن بوتين لم يكن يريد إعادة إنشاء الاتحاد السوفييتي، ولكن وبدلاً من السعي إلى دمج روسيا في الغرب، كما أراد سلفه بوريس يلتسين – لتلعب دور الشريك الأصغر للولايات المتحدة – سعى بوتين إلى بناء قوة عظمى مستقلة يمكنها التعامل مع الغرب بشروط موسكو .
واليوم، وبعد أن أقدم بوتين على غزو الجارة اوكرانيا، نرى أن أوكرانيا أصبحت إحدى قضايا الخلافات الروسية الأمريكية التي تضاعفت على خلفية الحجج الروسية التي لم ترقى إلى مستوى القبول لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود تحالفاً اوروبياً، دولياً ضد روسيا والرئيس بوتين تحديداً، والملاحظ هنا هي أن العقوبات الأمريكية الأوروبية الجديدة جاءت بعد مراجعة شاملة للعلاقات مع روسيا، وهو ما ستكون له أضرار كبيرة على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
الموقف الأوروبي لا يمكن استغرابه هنا، ذلك أنه ومنذ بداية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا عام 2014، برز الاتحاد الأوروبي كجهة رئيسية داعمة لأوكرانيا، برفض “العدوان الروسي”، وفرض العقوبات، وتقديم المساعدات المالية، وجهود الحل السياسي للتسوية في إطار ما كان يسمى “رباعية النورماندي” “روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا” لكن السنوات القليلة الماضية، شهدت تحوّلا في هذا الموقف، خاصة بين دول الاتحاد الرئيسية “ألمانيا وفرنسا”، حيث لمّحت بعض الدول إلى أهمية تطبيع العلاقات مع روسيا مجدداً، حيث تأثرت أوروبا أيضاً بعقوباتها ومع الزمن، تقدمت المصالح على المبادئ التي اضطلعت بالدور الأكبر في البداية مع الاعتراف أن هناك انقساما أوروبيا إزاء الملف الأوكراني، حيث إن “دول البلطيق وبولندا وبريطانيا “قبل وبعد خروجها بموجب “بريكست”” تنظر إلى روسيا على أنها دولة معتدية، لا تقف حدود عدوانها وتدخلاتها عند أوكرانيا فقط”، حيث تخشى هذه الدول من مخاوف من سعي بوتين نحو استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي.
وبينما ترى دوائر سياسية في واشنطن أن العقوبات الأمريكية لها هدف استراتيجي يتمثل في عزل روسيا على الساحة الدولية، واستهداف الاقتصاد الروسي بآثار العقوبات الاقتصادية، إلا أن ما تم إحرازه من تقدم حتى هذه اللحظة غير كاف، ويطالبون بالمزيد من أجل تقويض فرص الروس في الإستمرار بغزو أوكرانيا.
ويبقى احتمال تصاعد الحرب بين البلدين قوياً وقد تجاوز ما شهدناه مؤخراً من الطرد المتبادل للدبلوماسيين الروس من المندوبية الروسية في الأمم المتحدة، إلى جانب العقوبات التي بدت كأقوى عقوبات تفرض على دولة عظمى كروسيا، ذلك أن واشنطن تتخوف من إرهاصات الأحلاف التي تتشكل في منطقتنا على شكل اتفاقات اقتصادية وعسكرية كما بين الصين وإيران مثلاً، وهما الحليفين الرئيسيين لروسيا، رغم أنهما خذلاها في التصويت الأممي على قرار يدينها في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولا يغيب عن بالنا أن روسيا تعتمد سياسة تقوم على اقتناص الفرص في البلدان التي تعاني من الهشاشة السياسية وفقدان الأمن، لتتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر للاستحواذ على النفوذ في مناطق حساسة من العالم وهو ما نراه بوضوح عبر التدخل الروسي في سوريا لسنوات عديدة.
في خلاصة استراتيجية يمكننا القول إن كلاً من روسيا والولايات المتحدة وكذلك أوروبا تعتقد بوجود تهديد استراتيجي لها من الطرف الآخر، لذلك وجدت في غزو روسيا لأوكرانيا فرصة للانقضاض عليها، وهي التي كانت تبدي رغبة متجددة في الوصول إلى تفاهمات واتفاقات شراكة سياسية واقتصادية وأمنية واستخباراتية.
الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الغرب تقوم على اعتقاد محسوم بأن أوروبا هي حلف شمال الأطلسي ببنيته العسكرية والأيديولوجية المعادية لروسيا، وأنها تشكل عمقاً مهماً للأمريكيين، مقابل أهمية أوروبا الجغرافية والعسكرية والاقتصادية وأسواقها المفتوحة لروسيا، لكن الأخطبوط الأمريكي يبقى عاملاً لا يمكن ترويضه بسهولة لما يملك من سيطرة وهيمنة عسكرية واقتصادية تستطيع فرض إرادتها السياسية على أوروبا، بل والسيطرة على الروس، حتى لو ذهبت إلى محاولات الاحتواء قبل القمة المرتقبة في يونيو المقبل.
واليوم وبعد أن أصبح التوغل الروسي في كل أنحاء اوكرانيا، فهل يستطيع الرئيس الأوكراني الإستمرار في صموده أمام عاصفة من الجيوش؟.
قامت أوكرانيا منذ ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 بتحديث جيشها، لكن الجيش الروسي لا يزال متفوقا بشكل كبير من حيث الرجال والمعدات، ولكن القوات المسلحة الأوكرانية -حسب المعطيات العادية- لا يمكنها مواجهة الجيش الروسي القوي بنجاح.
الجيش الأوكراني عزز صفوفه وتسليحه، بحيث أصبح عدد جنوده الآن 210 آلاف رجل يتوزعون على النحو التالي: القوات البرية 145 ألفا، والقوات البحرية 12 ألفا، والقوات الجوية 45 ألفا، والقوات المحمولة جوا 8 آلاف.
أما عتاد القوات الأوكرانية فجله من روسيا، وبعضه قديم من الحقبة السوفياتية، فهناك 125 طائرة مقاتلة من أنواع مختلفة، وكلها روسية كما هو حال الطائرات المروحية، وقد وعت أوكرانيا خطورة هذا الاعتماد، وأقرت في عام 2016 خطة تبديل كل هذه الطائرات الروسية بحلول عام 2035 بطائرات من مصادر أخرى.
لكن لا ينبغي أن يغيب عن ذهن بوتين أن الغزو “الشامل” لأوكرانيا يعني الهجوم على بلد شاسع عدد سكانه يبلغ 45 مليون نسمة، ولا ينبغي له أن ينسى الهزيمة التي ألحقها الأفغان بالجيش الأحمر، والتي أجبرت السوفيات على الخروج المذل من أفغانستان في عام 1989، بل عليه أن يستخلص الدرس من عجز قواته عن إخماد التمرد ضد بشار الأسد في سوريا، وأن يعتبر مما ألحقته المقاومة العراقية والأفغانية بالأمريكان.
ولا ينبغي على بوتين أن ينسى أن الدول الغربية أمدت أوكرانيا بأسلحة متطورة ناقلا هنا عن رئيس أركان الجيوش الأوكرانية الجنرال فاليري زالوجني قوله “إن جيوشنا لن ترحب بأعدائنا بالورود، بل بصواريخ ستينغر وجافلين.. إلخ”.
روسيا تأتي في المرتبة الثانية عالميا كأقوى جيوش العالم، بينما تحتل نظيرتها الأوكرانية المرتبة الثانية والعشرين، ويصل عدد أفراد الجيش الأوكراني إلى 200 ألف جندي، بالإضافة إلى 250 ألف جندي في قوات الاحتياط، ومن حيث القوة الجوية، يمتلك الجيش الأوكراني 318 طائرة حربية فقط، بينها 69 مقاتلة، و29 طائرة هجومية، و32 طائرة شحن عسكري، إضافة إلى 71 طائرة تدريب، و112 مروحية عسكرية منها 34 مروحية هجومية في تأخر كبير وواضح عن نظيره الروسي في هذا الجانب.
ولدى الجيش الأوكراني أكثر من 2596 دبابة و 12303 مدرعات و1067 مدفعا ذاتي الحركة وأكثر من 2040 مدفعًا ميدانيًا، إضافة إلى 490 راجمة صواريخ، وعلى صعيد القوة البحرية، يضم الأسطول البحري الأوكراني 38 قطعة بحرية فقط في تأخر كبير أيضًا في هذا الجانب عن نظيره الروسي.
وبالعودة إلى الإجابة على السؤال الأبرز، وهو إلى متى سيصمد زيلنسكي؟، فقد أظهرت أوكرانيا مقاومة شرسة خلال الأسبوع الأول من انطلاق الغزو الروسي لهذا البلد، فاقت توقعات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وربما على الأرجح خالفت ما وعده به جنرالاته.
ولا تزال هذه المراحل الأولى لما يمكن أن تكون حرباً دامية للغاية، ولا شك أن بوتين كان يأمل في سقوط كييف بعد أيام قليلة من مباشرة القوات الروسية غزو أوكرانيا، وكان يتوقع بالتأكيد أن تقبل الدول الغربية المنقسمة والمرعوبة، استعادته ما يصفه بأنه أرض كانت تاريخيا جزءا من روسيا.
لم يحدث شيء من هذا القبيل، لقد أثبتت أوكرانيا أنه من الصعب كسر إرادتها، وكان رد فعل الدول الغربية وخاصة ألمانيا أكثر قوة مما كان يظن، لقد تعرض الاقتصاد الروسي بالفعل لضربة شديدة.